الاستماع للمقال صوتياً
|
أقرّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، توسيع دائرة الإمدادات العسكرية لأوكرانيا بما يشمل تزويدها بطائرات تركية بدون طيار في أحدث نسخ الصناعة الحربية التركية المسمّاة “بيرقدار بي تي 2″، هذا بينما عرض أردوغان في الوقت عينه الوساطة بين موسكو وكييف في محاولة منه لمنع وقوع أية مواجهة عسكرية بين الجارين العدوين.
هذه الازدواجية السياسية التركية تتكرر في غير بلد من العالم تنخرط فيه أنقرة انتصاراً لطرف دون آخر، من غير تحديد استراتيجيات واضحة وطويلة الأمد للأهداف التي تتوخّاها من الدعم الذي تقدّمه لطرفين متناقضين.
ففي سوريا دعم أردوغان المعارضة السورية سياسياً ولوجستياً، وساهم في تشكيل فصائل مقاتلة هدفها الرئيس إسقاط النظام السوري في دمشق (كما يُفترض). إلا أنه في مفترق تاريخي يخدم مصالحه الخاصة حصراً، ويتناقض مع المصالح الوطنية للسوريين حُكماً، أمر بتحويل دراماتيكي لاتجاه فوهة بندقية الفصائل المعارضة السورية، ودفعها إلى الانغماس في أعمال حربية خارج الحدود، في ليبيا وأذربيجان، وهما حربان لا ناقة للسوري فيهما ولا جمل.
أنقرة أردوغان ترتبط مع روسيا بعلاقات اقتصادية واسعة وكذا بجملة من التفاهمات بينهما تنصّ على الإبقاء على توازن القوى وإدارة الصراع في غير موقع من الشرق الأوسط وأوراسيا؛ لكن أردوغان لم يتردّد في الوقت عينه من دعم أذربيجان في حربها مع أرمينيا في جنوب القوقاز بما يتناقض مع مصالح روسيا الإقليمية وأمنها القومي، كما لم يغفل عن أن يصير رأس حربة في مقارعة المشروع الروسي في ليبيا بدعمه للحكومة المركزية الأحادية في طرابلس في مواجهتها مع الطرف الآخر الحليف لروسيا في بنغازي.
وبين طائرات بيرقدار تي بي 2 المقدمة من تركيا لأوكرانيا في حربها المحتملة التي تدق الأبواب، واستقدام صواريخ إس 400 الروسية للأراضي التركية، يقع البون الشاسع والتناقض البيّن في الطموح الأردوغاني الذي قد يصل إلى درجة من الشيزوفرينيا السياسية قد تكون غير قابلة للاحتواء.
تركيا أيضاً عضو مؤسس في حلف شمال الأطلسي، وتستضيف في قاعدة إنجرليك العسكرية الواقعة في مدينة أضنة قوات أميركية وأطلسية متعددة الجنسيات، وهي تدرك جيداً أهمية قاعدة إنجرليك للولايات المتحدة الأميركية كونها تشكل نقطة استناد مهمة في استراتيجيتها الدفاعية أمام موجة النفوذ المتصاعدة لروسيا والصين، خاصة إثر قيام روسيا بتعزيز حضورها في شرق البحر الأبيض المتوسط وبنائها قواعد عسكرية وجوية ضخمة في سوريا.
إلا أن أردوغان يبدو مصمّماً على جمع المجد من طرفيه، فمن جهة يسعى للحصول على منظومة الصواريخ الروسية المتطورة “إس 400” ليضعها جنباُ إلى جنب والسلاح الأميركي ضمن مقتنياته لأحدث الأسلحة القتالية التي يصنعها الخصمان واشنطن وموسكو، ومن أخرى يغضب لتعليق البنتاغون مشاركة تركيا في برنامج مقاتلات “أف 35” الأميركية رداً على محاولاته اقتناء أسلحة روسية استراتيجية، الأمر الذي تعتبره واشنطن مهدّداً لأمنها القومي ولسريّة تكنولوجيا سلاحها النوعي في آخر تحديثاته.
أنقرة أردوغان تلجأ حين تريد الضغط على واشنطن إلى التهديد بإغلاق قاعدة أنجرليك كلما اقتربت أميركا من إنزال عقوبات رادعة عليها. إلا أن أردوغان يتناسى أن الضرر سيلحق به أولاً في حال فكّر في إغلاق القاعدة. فالولايات المتحدة التي تملك ما يقارب 800 قاعدة عسكرية منتشرة في العالم قد تستغني عن القاعدة على الأراضي التركية وتنقلها بيسر إلى بلد آخر يرحّب بها، لكن هل تستغني أنقرة بالسهولة نفسها عن شراكتها الاستراتيجية في الحلف الأطلسي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة دون أن تحسب ألف حساب لهكذا سقطة سياسية محتملة؟
وأخيراً وليس آخراً، وإثر أن صرف الرئيس أردوغان معظم سنوات حكمه في عداء إسرائيل، نشهد اليوم تقارباً من طرفه باتجاه تل أبيب حيث نقلت وكالة أناضول التركية تصريحاته في مؤتمر صحافي أخير عقده مع نظيره الصربي، ألكسندر فوتشيتش، أن “أنقرة أجرت مؤخراً محادثات قيمة مؤخراً مع تل أبيب” وأشار إلى “إمكانية زيارة قريبة للرئيس الاسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، إلى بلاده”.
وأبدى أردوغان ترحيباً بنقل الغاز من شرق المتوسط إلى تركيا وأردف أن “هذا المشروع لا يمكن أن ينجح بدون تركيا”، في لفتة واضحة إلى تخوّف حقيقي لديه أن يبقى وحيداً خارج المعادلات الإقليمية الجديدة وخرائط الغاز والمصالحات والتعاون العسكري التي تجري في المنطقة.