عن طبخة النيجر وعفو بوتين النادر عن ’الطبّاخ’
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – وايتهاوس
رسالة المحرر بقلم مرح البقاعي
يبدو الحال إثر الإنقلاب في النيجر أكثر قتامة من يوم حدوثه، فقد رفض الانقلابيون كل المقترحات الدولية لإعادة الرئيس المنتخب، محمد بازوم، إلى سدة الحكم وإنهاء فوضى الانقلاب؛ بينما أعلنت نائبة وزير الخارجية الأميركي، فيكتوريا نولند، أن مباحثاتها مع القادة العسكريين كانت صعبة ولم ينتج عنها أي تقدّم يذكر لعودة الحالة المدنية إلى البلاد.
في المقابل بدأت واشنطن باللجوء إلى العقوبات الاقتصادية في محاولة للضغط على زعماء الانقلاب العسكري للعودة عن موقفهم، وتم بالفعل تعليق بعض برامج المساعدات الخارجية لحكومة النيجر في حمأة سيطرة الجيش على الدولة وعسكرة الحياة في البلاد.
وبينما تشكل المساعدات الخارجية التي تتلقاها النيجر ما يقارب 40% من ميزانية الدولة، إلا أن “تقديم المساعدة الأميركية لحكومة النيجر يعتمد على الحكم الديمقراطي واحترام النظام الدستوري”، كما أفاد بيان وزارة الخارجية الأمريكية نقلاً عن الوزير أنتوني بلينكن. إلا أن الخارجية نوّهت بأن تقديم المساعدات الإنسانية والغذائية المنقذة للحياة سيستمر، وأن أنشطة الحكومة الأميركية في النيجر لن تتوقف بما فيها العمليات الدبلوماسية والأمنية لحماية الأفراد الأميركيين على الأرض.
الانقلاب الذي حدث في النيجر ليس بمعزل عن تقلبات أخرى حدثت في غير مكان في العالم وأبرزها وأكثرها اقتراناً بحال النيجر اليوم هو ما حدث في روسيا إثر ’الانقلاب’ الخاطف والسريع الذي قادته قوات فاغنر على الحكومة الروسية، وانتهى نهاية سعيدة – كما أفلام الغرام الهندية – بعفو مفاجئ أصدره الرئيس فلاديمير بوتين عن المجموعة وعن قائدها يفغيني بريغوجين، الذي تحدى بوتين وجيشه ومنظومة حكمه في عقر داره.
الربط بين الانقلاب الأبيض في روسيا ونظيره الأسود في النيجر يكمن بداية في الحضور الفعلي لمجموعة فاغنر في الساحل الأفريقي من جهة، ورغبة روسيا من جهة أخرى إطباق نفوذها على القارة السوداء؛ وليس أفضل من استثمار قوة فاغنر وجهوزية أفرادها لتحقيق هذا الغرض!
فقوات فاغنر التي فاقت الجيش الروسي الجرار في تحقيق أهدافه في أوكرانيا، قد تكون قادرة – من خلال زعزعة الاستقرار في أفريقيا ومساندة الانقلابات العسكرية على الأنظمة المدنية الديمقراطية – على التمهيد لموسكو بالسيطرة وبسط النفوذ، وهو هدف قديم جديد لروسيا في القارة. وقد يكون العفو الذي منحه بوتين بسهولة فائقة لخصمه بريغوجين جزءاً من خطة متكاملة للتعاون بين موسكو الرسمية (الكرملين)، وموسكو الميليشياوية (فاغنر)، لتحقيق أهدافها في شغل الفراغ الدولي في أفريقيا.
للكرملين تاريخ في محاولة استقطاب النفوذ في أفريقيا أو دعم دكتاتور هنا و زعيم متسلط هناك، عن طريق العمل مع الأوليغارشية الرئيسة المتحالفة مع الرئيس بوتين. ومن بين المفضلين لدى الكرملين كان يفغيني بريغوجين ( طبعاً قبل أن يقوم بتحركه العسكري ضد نظام بوتين)، وهو المعروف باسم “طبّاخ بوتين” نسبة إلى عقود توريد الطعام الهائلة التي أبرمها مع الكرملين.
كما عُرف بريغوجين بتمويله لوكالة أبحاث الإنترنت (IRA)، وهي مجموعة من المتصيدين عبر الإنترنت الذين يسعون للتدخل في الآراء السياسية ونشر الدعاية الموجهة ومهاجمة النقد الموضوعي، وهي متخصصة بنشر المعلومات المضللة في جميع أنحاء العالم.
ووصف تقرير لوزارة الخارجية الأميركية في وقت سابق مجموعة فاغنر التي يمولها ويرأسها بريغوجين بأنها عميل الكرملين “لتنفيذ عمليات سرية ومسلحة في الخارج”.
كما ويشير التقرير وزارة الخارجية إلى أن بريغوجين حاول التأثير على السياسة الأفريقية لصالح روسيا من خلال الشركات التي تستغل الموارد الطبيعية في أفريقيا، وتوظيف نشطاء سياسيين ممن يقوضون الجهات الديمقراطية، والتلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي بواسطة شن وتوجيه حملات التضليل.
فرضت الحكومة الأميركية عقوبات على بعض شركات بريغوجين بسبب ما وصفته بـ “النفوذ السياسي والاقتصادي الخبيث الذي تمارسه في جميع أنحاء العالم” ، حيث قام بريغوجين بنشر قوات مجموعته في كل من أوكرانيا وسوريا وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق، ومؤخراً في مالي.
ومن الأمثلة على النفوذ الخبيث لفاغنر رعايتها بعثات زائفة لمراقبة الانتخابات في زيمبابوي ومدغشقر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب أفريقيا وموزمبيق، وفقاً لتقرير وزارة الخزانة الأميركية.
وبينما دعا الرئيس المعزول بازوم الحكومة الأميركية والمجتمع الدولي إلى المساعدة في استعادة النظام الدستوري في البلاد، طالب الرئيس بايدن بالإفراج الفوري عن بازوم. وأفاد الرئيس الأميركي في كلمة له بمناسبة يوم استقلال النيجر: إن واشنطن “تقف إلى جانب شعب النيجر التي تواجه تحديا خطيرا ضد ديمقراطيتها”.
طالب الرئيس النيجري الشرعي الذي وصل إلى سدة الرئاسة في انتخابات شعبية وبنهج ديمقراطي متكامل بتدخل مباشر من المجتمع الدولي للتصدي للانقلابيين، إلا أن الوزير بلينكن سارع وصرّح بأن الدبلوماسية هي الحل الأفضل لعودة الحياة المدنية إلى النيجر!
فكيف ستتعامل واشنطن مع تحدي العسكر في أفريقيا ومن ورائهم الخطر الداهم الذي تقوده قوى خبيثة قد يكون انقلاب النيجر أول تجاربها لنشر الفوضى وإحكام السيطرة، وليس آخرها؟!
أتساءل.