بن سلمان ونتنياهو، ودعوة لتانغو بإيقاع 2030
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس
مقال الرأي بقلم نشمي عربي
في مقالي الأخير بعنوان (واشنطن، الرياض، تل أبيب، وعام الاستحقاقات المُؤَجَّلَة)، تحدثت عن مفاصل سياسية مهمة تمر بها الولايات المتحدة التي تنتظر العام القادم انتخابات رئاسية فاصلة، وإسرائيل التي تمر بمخاض سياسي غير مسبوق، استدعى تدخلاً لافتاً من الرئيس بايدن، وختمته بأنني سأتعرض اليوم لمنعكسات ذلك إقليمياً، ولتداخلٍ ما، مع مايجري في العربية السعودية تحديداً، ولكنني سأبدأ من تل أبيب، لأنها عين الحدث.
في عددها الصادر بتاريخ 14 فبراير/شباط الفائت، نشرت صحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية مقالاً لمحرر الشؤون الأميركية والدولية “آلون بن كاس”، جاء فيه: ((في اليوم 46 لأداء حكومة نتنياهو اليمين الدستورية، أرسل الرئيس ال 46 للولايات المتحدة، ملاحظة من 46 كلمة، إلى “توماس فريدمان” كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز” قال فيها: ((عبقرية الديمقراطية الأمريكية والإسرائيلية تكمن في أنهما مبنيتان على مؤسسات قوية، على الضوابط والتوازنات، وعلى قضاءٍ مستقل. إن بناء توافق في الآراء بشأن التغييرات الأساسية مهم حقًا لضمان أن يتقبلها الناس، ليمكن استدامتها)).
ولأن “بن كاس” ليس غريباً عن واشنطن، (هو خريج جامعة جورج تاون فيها) فهو يعلم أن رسالة الرئيس بايدن هي لإسرائيل عموماً، ونتنياهو خصوصاً، وأن “فريدمان” و “نيويورك تايمز” ليسا سوى (صندوق بريد) مُسْتَفِّز جداً، لنتنياهو خصوصاً، ولليمين الإسرائيلي عموماً.
ليس في سيرة “بن كاس” مايوحي بِهَوَس في الرياضيات ليبني خوارزميات على الرقم 46, ولكن سيرته المهنية كمستشار في العلاقات الدولية لوزيري خارجية اسرائيليين هما “دافيد ليفي” و “شلومو بن عامي”، (للصدفة فالوزيران من مواليد المغرب)، وكذلك لرئيسي حكومة هما “إيهودا باراك” و “شيمون بيريز”، كل ذلك يضعه في موقع العارف بتفاصيل العلاقة الأميركية-الإسرائيلية، خصوصاً وأنه عمل بين عامي 2000-2004 قنصلاً عاماً لإسرائيل في نيويورك، بكل ماتمثله هذه المدينة من أهمية في الأسس العميقة للعلاقة بين البلدين.
أن يتدخل رئيس أميركي بهذه المباشرة بشأن داخلي محض في اسرائيل، وأن يكون المتدخل ليس سوى الرئيس بايدن، الذي يشهد له سجله في كافة المناصب التشريعيه والتنفيذية التي تقلدها بأنه كان دوماً من أهم الداعمين لإسرائيل وبالمطلق، فتلك دلالة واضحة على يقينه بأنها تمر بمخاض سياسي غير مسبوق، لاتشكل قضية التغييرات الخلافية التي يحاول نتنياهو إدخالها للجهاز القضائي سوى قمة جبل الجليد فيه، ولأن بايدن يعلم ذلك تماماً، فقد اختار التدخل فوراً، وعلى رؤوس الأشهاد.
صحيح أن نتنياهو كان دوماً ولأسباب متعددة يشكل حاله خلافيه كبرى، ولكن الصحيح أيضاً هو أن إسرائيل كانت تسير باتجاهها معه أو بدونه، وربما الأصح هو أن هذه الحاله الخلافية التي يمثلها في الفضاء السياسي الإسرائيلي ليست سوى تعبير دقيق عن العديد من التناقضات الموجودة أصلاً، وأن دخوله على الخط سارع في تفاعلاتها للدرجة التي دفعت رئيساً أميركياً (لاشك بصدق دعمه لإسرائيل) للتدخل الفوري والعلني.
الحاله التي يمثلها نتنياهو في إسرائيل لاتقف عند كونه يمثل تياراً يمينياً ضمن حزبه (الليكود) نفسه، بما قد يجعله من أكثر رؤساء الحكومات تعبيراً عن هذا اليمين في أقصى تطرفه، وبماقد يتجاوز كلاً من (بيجين وشامير وشارون)، ولكن هنا ينبغي ملاحظة أمر هام ومفصلي، وهو أن اليمين السياسي التقليدي الذي ينتمي له نتنياهو عضوياً ويمثله حزب الليكود، يستند إلى عقائد سياسية متشددة، ولكنها قابله للتفاوض والمناورة، بدليل أن حكومة “مناحيم بيغن” دون غيرها كانت السباقه في قبول مبادرة الرئيس السادات التي فتحت باب تفاوض شاق ومضني، انتهى بتوقيع أول اتفاقية سلام بين إسرائيل وأهم دولة عربية.
الأمر مع نتنياهو مختلف تماماً، وذلك لأسباب تتعلق بشخصه، وهَوَسِهِ بالسلطة، ربما بالإضافه لهواجسه من ملاحقات قانونية قد تطاله حال خروجه، خصوصاً بعد أن رأى سلسلة المتاعب القانونية التي تطال ترمب بعد خسارته للبيت الأبيض، ولكن هنالك قطعاً أسباب أخرى تتعلق بالمشهد السياسي الإسرائيلي عموماً، بسياقاته المتغيرة، وبشكلٍ لافت.
قد يجادل كثيرون بأن المجتمع الإسرائيلي قد حسم خياراته في السنوات الأخيرة لصالح اليمين، وقد ينطوي هذا القول على كثير من الحقيقة، ولكنها تحتاج لشيء من التفصيل، بدليل أمرين هامين:
أولهما هو حجم الرفض الشعبي لخطط نتنياهو لتطويع مؤسسة القضاء وجعلها أقل استقلالاً لمصلحة السلطة التنفيذية التي تمثلها الحكومة، وقدرة الرافضين لها على تجييش الشارع الإسرائيلي، وثانيهما هو أن اليمين السياسي التقليدي ممثلاً بنتنياهو، والذي استطاع الفوز بأغلب الجولات الانتخابية الأخيرة، كان يجد دوماً صعوبة كبرى في تشكيل حكومة يكون له الكلمة الفصل فيها، مما اضطره لعقد تحالفات مع اليمين الديني الأكثر تطرفاً، والذي يستند لعقيدة لاهوتية غير قابلة لأي تفاوض، مما زاد في حدة الانقسام السياسي في الشارع الإسرائيلي.
الأمر بكل بساطه هو أن نتنياهو يعلم بأن لاأحد (حتى في صفوف اليمين السياسي التقليدي) يرغب بعقد أي تحالفات حكومية معه، ممايزيد في حالة ارتهانه لليمين الديني الذي سيبالغ في ابتزازه، مستغلاً عدم قدرته على الاستغناء عن تحالفاته معه، لفرض أجندة حكومية ستضعه في مواجهة الشارع الإسرائيلي الذي لم يتردد في إظهار قدرته على الوقوف في وجه إملاءات اليمين الديني، خصوصاً وأن الأمر لايتعلق بمواضيع كالاستيطان أو المفاوضات مع الفلسطينيين، وإنما يتعلق بالحياة اليومية لعموم الإسرائيليين، للدرجة التي دفعت الرئيس الأميركي للتدخل الصريح والعلني.
الأثمان العالية التي سيضطر نتنياهو لدفعها ثمناً لارتهانه لأجندات اليمين الديني لن تكون فقط محلية ببعد أميركي، كما رأينا مع تدخل بايدن ومثله وزير خارجيته بلينكن، بل ستتعدى ذلك لتضع قيود على حرية حركته إقليمياً، في وقت كان يتوقع أنه سيبدأ في جني ثمار خروقات دبلوماسية مهمه حققتها حكوماته السابقة بجهود رئيس الموساد السابق المقرب منه “يوسف كوهين” والذي كان المحرك الفعلي لدبلوماسية هادئه في السنوات الأخيرة أثمرت عن علاقات دافئة بين اسرائيل وأطراف في محيطها العربي، بعضها ظهر للعلن وبشكل رسمي، وبعض آخر لايزال بحاجة لاكتمال جهود إخراجه.
يعلم نتنياهو جيداً أن الوضع المريح الجديد لإسرائيل في محيطها العربي لن يكون مكتملاً ولا فاعلاً إذًا لم تكن العربية السعودية جزءاً منه، فهي زيادةً على مكانتها العربية والإقليمية والدولية، تشكل أكبر اقتصاد في المنطقة، ليس فقط بحجم الكتلة النقدية الرهيبة التي تتحكم بها، بل بحكم أنها أكبر سوق (مقتدر) في الشرق الأوسط.
الخطأ الأساسي الذي يقع به أغلب من يتناولون موضوع إسرائيل والسعودية هو أنهم يتناولونه فقط من زاوية القضية الفلسطينية، وأنا أعتقد جازماً أن رؤية ولي العهد السعودي الذي يقود سياسة بلاده مختلفه تماماً، فهي من الواقعية بأنها تدرك عدم منطقية تجاوز الشأن الفلسطيني، ولكنها من الطموح بأنها تسعى نحو واقع اقتصادي جديد للشرق الأوسط تكون بلاده محوراً له، ويشجع إسرائيل بما تملكه من مقدرات علميه وتكنولوجية أن تكون طرفاً فاعلاً فيه، بما يخلق وضعاً جديداً من الممكن أن يشكل قاعدة متينه لحل كافة المشكلات السياسية المزمنة بين إسرائيل وجيرانها.
بوضوح واختصار فإن “بن سلمان” لن يقبل أن يأتِ رابعاً ولا ثالثاً، ولاحتى ثانياً في هذا الحراك العربي النشط باتجاه إسرائيل، هو بكل بساطه يرى أن حجمه في سياسات بلاده، وحجم بلاده في سياسات المنطقة، يؤهلها لدور أكبر وأهم وأشمل وأعمق، ومن هنا فإنه ليس من المهم إن كانت جهود “يوسف كوهين” قد أثمرت عن تأمين لقاء شخصي بين نتنياهو و “بن سلمان” جرى الحديث عنه مراراً، المهم فعلاً هو مدى قدرة نتنياهو على أن يكون جزءاً من الواقع الإقليمي الجديد الذي يعمل “بن سلمان” على الدفع به، بكل مايقدمه من منافع اقتصادية حقيقية، لإسرائيل كما لجيرانها، ويؤمن أرضية واقعية لحلول سياسية نهائية للمنطقة برمتها.
في خمسينيات القرن الماضي عمل رئيس الموساد التاريخي “إيسير هاريل” جاهداً على عقد لقاء سري بين “بن غوريون” و “عبد الناصر”، شروط نجاح ذلك اللقاء لم تكن متوفرة، فلم يحصل، ودفعت المنطقة كلها ثمن ضياع فرصة تاريخية ربما كانت غيرت مجرى أحداثها لعهودٍ تلت.
الظروف اليوم قد تكون مختلفه تماماً بمالايدع جدوى
لمقارنتها بظروف الأمس، فهل يستطيع نتنياهو أن يكون شريكاً حقيقياً في مشروع سيغير وجه المنطقة لعقود؟ وربما للأبد؟
ليس لدي أدنى شك بأن “بن سلمان” يدرك تماماً بأن المشهد السياسي الإسرائيلي الراهن قد لايدعم نتنياهو ليكون طرفاً فاعلاً في مشروعه للمنطقه، خصوصاً في ظل ارتهاناته لليمين الديني الإسرائيلي وحساباته الداخلية الضيقة، ولكن من قال أن طريق “بن سلمان” للوصول ببلده إلى حيث هي اليوم كانت سهلة وميسرة؟ ولم تتطلب منه القيام بخطوات كان مجرد التفكير بها منذ سنوات قليلة يعتبر نوع من السراب المشبع بالخيال؟
لم يكن الأمير “محمد بن سلمان” بحاجه لانتظار تمكنه من كل مفاتيح السلطة في المملكة ليدرك مدى نفوذ المؤسسة الدينية فيها، وحتى ضمن بعض أفراد العائله المالكه، فوالده الملك الحالي كان لفترة طويلة أميناً لشؤون العائله، وهو بحكم قربه منه كان مدركاً تماماً لتوازنات القوة فيها، والأهم كان إدراكه للأبعاد المالية والاقتصادية التي تؤثر بشدة في هذه التوازنات.
لم يجابه “محمد بن سلمان” المؤسسة الدينية في المملكة، ولم يُلْغِها بالمطلق، ولكنه عرف كيف يحيدها تماماً (Neutralize)، وبدلاً من الاصطدام معها، عَمَدَ إلى خلق ظروف جديدة تتناول طريقة حياة السعوديين، خصوصاً جيل الشباب منهم، في بلد تتجاوز نسبة من هم دون 30 عاماً فيه ال 51% بقليل، مما أوجد واقعاً جديداً أصبحت المؤسسه الدينية فيه مُحَيَّده تماماً عن أي دور فاعل وتأثير مهم لطالما تمتعت به في كل مراحل الحكم السابقه.
استفاد “بن سلمان” من واقع جديد ومهم يتعلق بعشرات الآلاف من الشباب السعودي العائد من حياة دراسية لاتقل عن خمس سنوات في الغرب، وبإدراك منطقي أن هذا الجيل بعد عودته لن يكون قادراً على العيش بنفس طريقة الحياة السابقه لاغترابه، فعمل على أن يؤمن لهم مايضمن طريقة حياة أكثر انفتاحاً، وتماشياً مع روح العصر، بمالايتناقض بحدة مع خصوصية المجتمع السعودي، التي بدأت أيضاً تنحو منهجاً أكثر وسطيةً واعتدالاً.
لاشك لدي بأن “بن سلمان” يدرك أن التحدي الحقيقي هو إيجاد فرص عمل مناسبة لهذا الجيل تحديداً، كما لباقي السعوديين، ومن هنا كانت رؤيته الاقتصادية 2030 التي تتجاوز بلده إلى المنطقة ككل، وأعلن صراحةً أن تحقيق أهدافها هو تحدٍ شخصي له، كما لكل سعودي، (لغه جديده لم يألفها السعوديون قبله).
كان واضحاً أن السياسة السعودية الجديدة ستكون متمحورة تماماً حول الاقتصاد، الأمر الذي سيفتح آفاق اقتصادية وتنموية جديدة للسعودية وللمنطقة، ولأن هذه السياسة واقعية فهي تدرك أن إسرائيل في النهاية جزء من هذه المنطقة.
السؤال الحقيقي والمحوري اليوم هو:
هل ستستطيع حكومة بنيامين نتنياهو أن تقدم نفسها كشريك فاعل في هذا الواقع الجديد؟
وهل لدى نتنياهو القدرة على تسويق هذا الواقع الجديد الواعد في صفوف اليمين الإسرائيلي؟
خصوصاً المستند منه لعقائد دينية لاهوتية؟
أم أنه سيكون بحاجة للإستعانه بصديق؟
وهل ستستطيع الإدارة الأميركية الحالية، أو القادمة، أن تكون هذا الصديق الذي يستطيع تقديم ضمانات ستكون لأول مرة ذات مردود واقعي وعملي في حياة الإسرائيليين، والمنطقة؟