الحاجة العربية إلى جماعات الضغط
الاستماع للمقال صوتياً
|
بيروت – وايتهاوس
مقال الرأي بقلم الجنرال يعرب صخر
السلطة والشعب والأرض، عناصر قيام الدولة، يلزمها مؤسسات وأجهزة لتسيير مرافقها وشؤون مواطنيها، تنظمها قوانين ودستور وقواعد. هذه الممارسة تقتضي رقابة ومساءلة وتوجيه دائم وتصويب دؤوب.
السلطة التشريعية تسن القوانين لذلك، السلطة التنفيذية تطبق القواعد وتخدم الأفراد وتسيّر أمور الدولة، و القضائية تحاكم، وأجهزة الرقابة والتفتيش تحدد الانتهاك والمخالفة؛ أيضاً هناك صحافة وإعلام وناقدون. كل هذا الحراك بعناصره المختلفة تشكل ضابطاً لسلوك وأداء النظام الحاكم والمسؤولين عن ممارسة الحُكم.
على أن هناك ظاهرة هامة وعامة في أغلب المجتمعات والدول وهي مدنية غير حكومية، تختصر بحركتها وتتضمن بمبادئها كل هذه الضوابط أعلاه وتتدخل ضمن حركة ومسارات الفعل التغييري والمؤثر في المجتمع الذي تسوده أسس وقواعد وقيم الديمقراطية. هذه الظاهرة اسمها: جماعات الضغط.
لمقاربة موضوع هذه الظاهرة ذات الأهمية البالغة داخل الحقل السياسي لأي دولة، نحاول ملامسة أسُسِها واستجلاء ماهيتها وتبيان وظيفتها وحدودها. بعبارة أخرى نسعى لفهم المقصود بها، ما الفرق بينها وبين الأحزاب السياسية؟ ما هي خصائصها المميزة؟ أنواعها؟ وسائلها؟ وما هو دورها على المستويين السياسي والديمقراطي؟
يمكن القول أن نشوء جماعات الضغط يعود إلى بداية التكوين النظامي للدولة، وبالأخص عندما أخذ طابع العصرية والديموقراطية، وخصوصاً بعد سيطرة الاتجاهات الفكرية الليبرالية والحرية ومبدأ حقوق الإنسان.
ومع تقلص نفوذ الأنظمة الشمولية وتطور مسيرة النظم الديمقراطية، وظاهرة العولمة، ظهرت الحاجة لوجود منظمات تعمل على ممارسة الضغط على السلطة السياسية لتحقيق اكبر قدر من المطالب الإنسانية والاقتصادية و للضغط باتجاه تصويب أداء الحكم والتوجه السياسي لتحقيق أهدافها ومطالب فئاتها الاجتماعية. ولا يجوز الخلط هنا بين هذه الجماعات وبين الاحزاب التي هدفها سياسي بحت وسعيها الاول الوصول للسلطة.
وإذا كان اصطلاح “الأحزاب السياسية” قديماً ومألوفاً، فإن اصطلاح “جماعات المصالح والضغط” مفهوم جديد أدخله الأميركيون إلى قاموس العلوم السياسية تحت تأثير المدرسة السلوكية، ثم انتقل للغة الفرنسية، ومنه إلى لغتنا العربية، وأصبح موضع اهتمام الباحثين. أول ظهور لها كان في ثمانينيات القرن 19 في الولايات المتحدة الأميركية، ثم صارت تُمارَس في الدول الأوروبية. وتُعتبر هذه البلدان الحقل الاساسي الذي تنبت فيه والميدان الواسع لنشاطها، حيث تُعد الآن بالمئات في فرنسا ويصل عددها إلى عشرات الآلاف في أميركا. هنا بدأ البروز السريع والأعم لهذه الظاهرة بصورتها الحديثة، والذي يختلف عن صورتها القديمة.
إذاً وبالمفهوم العام وبالتعريف اختصاراً لكل جماعات الضغط و اللوبيات والمصالح: هي تنظيم قائم للدفاع عن مصالح معينة، يمارس عند الاقتضاء ضغطاً على السلطة العامة بهدف الحصول على قرارات تخدم مصالح هذه الجماعة وتدافع عنها لصالح دولها بكافة الوسائل المتوفرة في نطاق القانون.
لذلك فمن أهم شروط اعتبار الجماعة جماعة ضغط، هي في: وجود تنظيم وعلاقات وروابط ثابتة توحد أعضائها، وفي تمتعها بالقدرة على ممارسة الضغط على السلطة العامة بهدف تحقيق مصالحها. وهي تجمعات تشمل كل الجوانب: اقتصادية واجتماعية ومهنية وثقافية، وتستهدف غايات سياسية كاللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
ومن هنا نلقي الضوء على أزمة إهمال العرب لأهمية ودور وفاعلية هذا المنحى ذي التأثير المهم في توجيه السياسات العالمية وحشد التأييد لصالحهم.
لا شك أن العمل الدبلوماسي مهم لكنه مكبل بضوابط وقواعد مقيدة، بينما مجال اللوبيات حر وغير مقيد وواسع الحركة. في عصر العولمة واضمحلال الأنظمة الشمولية المغلقة، وانتشار الحرية وحركة السوق والتجارة والتركيز على القدرات الإقتصادية والتنموية، باتت الدول تسخر نشاطها السياسي والدعائي لخدمة هذه الأهداف والمصالح، ولا شيء يضاهي اللوبيات في هذا النشاط. منها من سخرت بعثاتها الدبلوماسية لخدمة جماعات الضغط، منها من أحلّت هذه الجماعات محل الدبلوماسية، ومنها من دمجتهما ببعض. والأهم أن بعض الدول ذات التأثير قد حشدت كفاءاتها ونخبها وإمكانياتها وضختها في هذه الجماعات كعمل متكامل ومتفاعل يتقدم على الدبلوماسية والبيروقراطية. ومهما يكن فقد تبين لصناع القرار في الدول أهمية الركون لهذا النشاط كونه يتميز بالمرونة والحركة ويعطي النتائج السريعة المتوخاة، ويصل الى رأس صانع القرار ويمسك بيده وقلمة ويأخذ توقيعه لصالحه و يمنعه في غير صالحه.
إن ادعاء البيروقراطيين أن رأس الدولة يختصر كل هذا الحراك ويصل مباشرةً للرأس الآخر، ولا حاجة لكل هذه العملية، فاته أن أن هذا الرأس يقتصر لقاءه به على المجاملة وتتحكم بقراراته جماعات تتربص به في الردهات وتتلقفه وتسيره وفقاً لنظرة وتوجه سبق أن تم ترسيخهما في أجهزة إدارة هذا الرأس المقرر وليس بإمكانه التقرير خلافها.
هذا ما ينقصنا نحن العرب وهذا ما فاتنا إيلاؤه الأهمية. هل تعلمون أن إيران لديها في أميركا وحدها أكثر من عشر لوبيات؟ وأن إيران وقعت على عقد مع فرنسا بثمانين طائرة ايرباص، شركة توتال تنقب هناك، شركات سيارات بيجو ورينو تصنع في طهران؟هذه الشركات الفرنسية لديها جماعات ضغط فاعلة في الأليزية تؤثر إلى حد بعيد في قرارات ماكرون. لذلك نرى كيف فرنسا تتناغم مع إيران وأذرعها في لبنان مثلا” حيث ترشح فرنسا مرشح الممانعة التابع لإيران، وحيث التوتال أخذت الحظوة للتنقيب عن الطاقة في لبنان
نحن لا تنقصنا الكفاءات في كل المجالات لهذا النشاط، ولا عدمتنا الإمكانات وهي ضخمة. يجب التأسيس فوراً لذلك وبكل عزيمة وجد. إن كان ذلك قائم فهو ضعيف ومحدود وغير ذي أثر. يجب تعزيزها توازياً مع البعثات الدبلوماسية وجعلهما جسماً متكاملاً لغرض موحد يصل لصانع القرار لا بل يصنع القرار، وكيلا نبقى نقول ما أكثر الجماعات وما أقل الضغط.