الاستماع للمقال صوتياً
|
سنحاول فيما يلي تقديم تصور عام عن الإطار التحليلي – الاستراتيجي للتبدلات العميقة التي تتعرض لها العلاقات الدولية. جرى تطوير هذا الإطار كنموذج بحثي لتقدير المخاطر والفرص بالنسبة لصانعي القرار حيث لا يمكن فهم التحولات الجارية في الشرق الأوسط دون فهم هذا التبدل وما يستتبعه من تبدل في النظام العالمي. النظام العالمي في ظل عالم متعدد الأقطاب.
نحن وإعادة تشكيل النظام الدولي
يدخل العالم في في حالة من الاضطراب عميق وعلى صعيد كل أقاليم بشكل خاص وكل دولة على حدة بشكل أخص. هذا صدام هذه الطبقات التكتونية الكونية والإقليمية والداخلية – الوطنية تتردد أصداؤه في كل العالم ويولد صراعات عميقة تتخذ أشكالا عنيفة جدا في الشرق الأوسط. وفي حين أن الصدام الشامل بين الشيوعية، والولايات المتحدة على سبيل المثال لم يولد حربا بينهما لكن التحول الذي نجم بعد الحرب العالمية الثانية والصراع بين المعسكرين على نموذج العلاقات الدولية ولد اكثر من مئة وستين حربا إقليمية في الأطراف، فإن التحول الجديد الذي يشكل العالم بأسره قد يحمل مخاطر أكبر كثير في ظل غياب قطب مهيمن.
النظام الدولي فيما قبل الحرب العالمية الأولى
: يشكل انهيار منظومة السلام الأوربي نموذجا تاريخيا للكيفية التي يهز فيها عمق التبدلات الهيكلية بنية النظام السائد. ذلك أنه في الفترة التي تلت هزيمة نابليون في أوروبا، تمكن كل من مترنيخ، ومن ثم بسمارك من بلورة نظام عالمي-أوروبي بين مختلف الممالك والامبراطوريات الأوروبية،
سمح لأوربا ان تتجنب الحروب فيما بين دولها الكبرى لمدة تقدر ب 99 عام، حيث لم تحصل باستثناء بعض الحروب الجانبية. لكن كيف انتهى هذا النظام الأوروبي- العالمي؟ لقد انتهى لان كل الأسس التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والبنيوية التي قام عليها هذا النظام تآكلت وتحولت. وبدأت علامات شيخوخة الامبراطوريات تسود بشكل خانق، سواء فيما يتعلق بقدرتها على التجاوب مع الحاجات الملحة لنمو الاقتصاد السياسي العالمي او نمو الصناعة أو تنامي العولمة التجارية والاقتصادية أو من حيث منظومة القيم التي قامت عليها بنية الممالك والامبراطوريات، بما في ذلك مقومات شرعية الأنظمة الكهنوتية. وتعمم هذا التداعي على مساحة العالم بأسره ليشمل الامبراطورية البريطانية أو النمساوية – الهنغارية أو الألمانية أو الروسية او العثمانية.
وبالمقابل كانت الرأسماليات الصاعدة لا تجد في الإقطاعية الإمبراطورية الا عائقاً امامها وتطمح لإعادة هيكلة بنية الدولة ومنظومة الشرعية والولاء فيها بشكل جذري. وترافق ذلك التحول مع تداعي الأسس الايديولوجية للشرعية الكهنوتية المؤسسة للإمبراطوريات لصالح نمط جديد من الشرعية التمثيلية التي تقرع الباب. رغم هذه التحولات، استمر الوهم حول قدرة النظام الأوربي – العالمي على إدارة العلاقات الاوربية من دون حروب، بل كان مستمراً بكل عناد او بكل سذاجة. وفي حين لم يعد بالإمكان الجمود على الموجود، اعتقد الأوربيون ان التكامل الاقتصادي العالمي والأوروبي خاصة وبشكل أخص التكامل والتداخل بين ألمانيا وبريطانيا قد وصل الى حد ان من المستحيل ان يضحى به في اتون الحرب جديدة مقبلة. وفي حينه كتب نورمان انجيل عام 1910 كتابا في الاقتصاد السياسي غاية في القوة والحجة، اكد فيه ان الحرب في أوربا قد أصبحت مستحيلة بسبب هذا التداخل والتكامل، ودعم ذلك بحجج “صلبة جدا” بحيث انه نال عليه جائزة نوبل. لكن تجربة الحرب بالذات تظهر لنا ان العامل الرئيس في تحديد مستقبل الحرب والسلام ونمط النظام العالمي هو مدى استجابة النظام الدولي القائم لمتطلبات التطور التاريخي للبشرية. فالتاريخ ليس إنسانياً ولا مسالماً وفي عالم تحكمه الجيو- استراتيجية يكون صانع القرار صنيعة الحراك التاريخي. وبعد انهيار الإمبراطوريات الخمس استمر الكثير من الإسلاميين في تصوير انهيار الامبراطورية العثمانية كمؤامرة “امبريالية”، في حين ان ما حدث ببساطة انه ما انتهت الحرب العالمية الاولى الا وانتهت معها خمس إمبراطوريات، الألماني، و الهنغارية النمساوية، والروسية، والعثمانية، والاهم هو انهيار الإمبراطورية البريطانية. فأين المؤامرة ومن وعلى من؟
النظام العالمي فيما بعد الحرب العالمي الثانية
بعد انتهاد الحرب العالمية الثانية عام 1945، أي بعد 31 عاما من انفجار الحرب العالمية الاولى كانت اوربا قد خسرت في الحربين الكونيتين مئة مليون انسان قتلوا فيها لأسباب سياسية. في حين خرجت من الحرب 18 دولة مفلسة ومدمرة ومنهارة باستثناء دولة واحدة ألا وهي الولايات المتحدة. كان التساؤل الرئيسي هو من العدو الآن؟ وما الذي سيتبقى من التحالف المعادي لدول المحور بعد هزيمتها. وسرعان ما أجاب ستالين عن هذا السؤال، اذ أعلن في عيد العمال عام 1946 انفضاض التحالف ضد النازية، وان عهد الشيوعية قد آن، التي ستقوم بدورها بتدمير الرأسمالية الامبريالية المسؤولة عن مآسي البشرية. هذا الخطاب نقل أمريكا من حالة الغبطة والاسترخاء التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية عن أوهام التعايش والسلام والتعاون بين العالم الغرب وروسيا الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية، لينقلها الى مجابهة تضطر لأن تضع فيها قضية قهر الشيوعية كأولوية قصوى.
بعدئذ عملت الولايات المتحدة بسرعة على خلق بنية علاقات دولية تهدف لمحاصرة الشيوعية وخنقها. وقامت بذلك مستفيدة من بحريتها المتقدمة وقوة اقتصادها الذي خرج مزدهرا من الحرب في حين خرجت اقتصادات 18 دولة دخلت الحرب العالمية الثانية خربة ومفلسة. بذلك أسست الولايات المتحدة نظاماً اقتصادي واستراتيجي وسياسي عالمي جديد قائما على مبدأ بسيط تمت بلورته في اجتماع جرى في بريتون-وودز عام 1954.
في بريتون-وودز قدمت أمريكا عرضين مغريين للدول الحليفة، نموذجا جديدا للعلاقات الدولية والاقتصاد العالمي. فبعد ان كانت هذه الدول تبني أساطيل وتحتل المستعمرات من أجل ضمان وصولها الي الموارد والأسواق أعلنت أمريكا أنها تكفل حرية التجارة العالمية وتضمن وصول كافة الدول للموارد لتشتري ولتبيع بضائعها تحت حماية البحرية الامريكية. ولم تعد بالتالي ثمة حاجة لان تستمر الدول الكبرى في حماية التجارة العالمية ولا ان تشتبك البحريات الفرنسية والإنكليزية أو الهولندية في عرض البحر تنافساً على الموارد والأفضليات التجارية، ولا حاجة لاحتلال الدول من أجل ضمان الوصول للموارد بالقوة. كل ذلك يمكن تبديله بنشوء قوة بحرية مهيمنة تضمن أمن التجارة العالمية. ولقد ان الأوان بالتالي لإنهاء مرحلة الاستعمار الأوربي المكلف بالنسبة لهذه الدول وبالنسبة للدول المستعمرة بالطبع. كما أعلنت الولايات المتحدة انها تفتح أسواقها لدول العالم كافة من اجل تدعيم حرية التجارة. مقابل ذلك ضمنت الولايات المتحدة من الدول المشاركة في مؤتمر بريتون-وودز أن يقوم النظام المالي بالاستناد إلى الدولار كأساس لتعاملات السوق الدولية من جهة، وأن يتعزز بقوة التحالف المعادي للشيوعية بين هذه الدول. كان من أهم تداعيات هذا الاتفاق، انهيار مقومات منظومة الاستعمار القديم، وبدلا عنه ساد عمليا ما يمكن تسميته السلام الأمريكي ” باكس أميريكانا” القائم على “بريتون-وودز”.
بالنسبة للمستعمرات، كان الهاجس في حينه أيضا، أن استمرار منظومة الاستعمارية يحمل معه خطر تحول هذه البلاد إلى بؤرة تزدهر فيها الشيوعية. لذلك كان من الهام إنهاء الصيغة القديمة للاستعمار، كجزء هام من اجندة درء الخطر الشيوعي. ويبدو ذلك صحيحا حتى، لو كان يعني قدوم العسكر إلي السلطة هنا وهناك. بل شجعت الولايات المتحدة عمليات الإصلاح الزراعي وتصفية الأنظمة الاقطاعية في هذه البلدان التي كان من الواضح انها ستمر بمخاضات عسيرة وعميقة في طريقها نحو الحداثة.
بحثاً عن النظام العالمي لما بعد الحرب الباردة. بسقوط جدار برلين نشأ وضع جديد. وعاد السؤال: من هو العدو الآن؟ واي نظام جديد سيحل محل القديم؟ من جهة، فإن الولايات المتحدة بلا عدو، قد لا تحتاج لتبني نجاحها الاقتصادي والاستراتيجي للنظام العالمي بشكله الراهن. أما الصين الصاعدة فكانت هي المستفيدة الأولى من هذا النظام ومن من انهيار الاتحاد السوفياتي، لان ذلك سمح لها بفتح كافة الأسواق العالمية تحت حماية البحرية الأمريكية ونظام العولمة الأمريكي، لتصبح الصين ورشة العمل الصناعية الكبرى للعالم أجمع. وهنا أيضاً، استغرقت الولايات المتحدة وقتا كيف تعيد انتاج استراتيجياتها الجديدة، فمثلما تحتاج السفن الضخمة لزمن طويل للانعطاف وتبديل سمتها، استهلكت الولايات المتحدة الكثير من الوقت حتى بدأت في الانعطاف بعيدا عن النظام بريتون-وودز الذي أسسته هي. فها هي الصين تتلصص على التكنولوجيا وبراءات الاختراع الأمريكية وتحاول منافستها في جوهر مصالحها في بحر الصين وتعمل على تنمية خطط بحرية وبرية توسعية. وها هي روسيا عبر تصعيد التوتر العالمي بهدف تعظيم دورها عبر إضعاف الوحدة الأوربية وتحالف خصومها الغربيين.
في هذا السياق بالذات بدأنا نلاحظ بوضوح تبدل ملامح الموقف الأمريكي من مصير النظام العالمي الدارج ومن مصير مؤسساته. لماذا؟ لأن هذا النظام العالمي الذي انشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية لم يكن ناجما عن مصالح الاقتصاد الأمريكي بحد ذاته بقدر ما كان هذا التحالف كان يخدم الأمن القومي الأمريكي. وبما ان الخطر قد تراجع ويتراجع موقع هذا النظام في أولويات الاستراتيجية الأمريكية. ويتبدى ذلك في جملة حقائق. أهمها أنه منذ أكثر من ثماني عقود، كانت حصة التبادل الدولي للولايات المتحدة من الدخل القومي الأمريكي لا تزيد عن تتراوح بين 12-14٪ من الدخل القومي الأمريكي. فبعد ان خلقت الولايات المتحدة حولها نظاما عولمياً صغيرا يتمثل في توحيد السوق مع كل من المكسيك وكندا وبريطانيا وأستراليا بدرجات مختلفة أصبحت اقل تأثرا بتبدلات الاقتصاد العالمي.
بالمقابل ترى الولايات المتحدة ان الصين استفادت من هذا الغطاء الأمريكي الاستراتيجي الدولي، كضامن كوني للاقتصاد العالمي لتبني أوسع نهضة اقتصادية في تاريخها، لكنها أصبحت تتصرف، من وجهة النظر الأمريكية بشكل طفيلي على هذا النظام العالمي. وسرعان ما بدأنا نلاحظ منذ منتصف عهد أوباما، التحضير العملي لمراجعة النظام العالمي بما يضمن استعادتها لدورها الكوني كدولة وحيدة عظمى تعمل في اطار عالم متعدد الأقطاب من دول كبرى. في نترة انعدام الوزن في الموقف الاستراتيجي الأمريكي، نشأ لدى العديد من الاقتصاديين والاستراتيجيين روج له في الصحافة الدولية، ميل كبير للقول بان المصالح الاستراتيجية والجغرافيا الاقتصادية، لم تعد هي الحاكمة حسابات الدول بما فيه الولايات المتحدة بل، ساد وهم حول موت الجيو-استراتيجية كعلم ومعايير لصالح العلاقات والمصالح الاقتصادية المباشرة. ولعل سبب هذا الوهم هو ذاك الضمان الأمريكي لحرية التجارة ولأمن أعالي البحار بحيث صار بديهياً كالهواء. لكن مع بدء مراجعة الولايات المتحدة لهذا الغطاء الاستراتيجي عادت الجيو-استراتيجية كمعيار واعتبار جوهري لتطفو وتصبح عاملاً يتحكم بعمق في رسم السياسات الدولية. وفي حقيقة الأمر لا يجب ان نعتبر غياب الحروب الكونية وغياب الصراعات المفتوحة على الثروات والموارد بين الدول الكبرى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلا مرحلة شاذة في التاريخ البشري.
لكن طبيعة ودوافع هذه الصراعات ستختلف باختلاف العصر. وفي حين كانت الموارد ومصادر الطاقة هي الدافع الأكبر للصراعات والمنافسة الدولية، فإن تطور الاقتصاد العالمي ومع استقلال الولايات المتحدة في العديد من الموارد بما فيها مصادر الطاقة، تصبح أمريكا اقل ميلا بكثير للتدخل المباشر في مصائر دول العالم لضمان ولائها. وينجم عن ذلك ان الولايات المتحدة أصبحت أكثر تركيزا علي مصالح تنافسها مع الصين من جهة وصراعها مع روسيا من جهة أخرى اكثر بكثير من العديد من الاعتبارات السابقة. وفي حين كان الصراع على الأسواق فيما بعد الحرب العالمية، أحد أهم محاور الصراع الدولي، فلقد أصبحت الأسواق داخل الدول المتقدمة ذاتها اهي بعشرات المرات من أسواق الدول النامية. ومع تصاعد ميل الولايات المتحدة للتركيز على مهام إدارة الصراع مع كل من الصين كمنافس، وروسيا كخصم، حاولت الولايات المتحدة وتحاول بناء منظومات إقليمية متعددة الأقطاب، تستند الي أعمدة استراتيجية إقليمية، لتلعب دورها بمثابة في إدارة منظمات سلم وزمن إقليمي.
يعكس هذا التوجه الأمريكي لتبديل مجمل هندسة النظام العالمي، من نظام هرمي مركزي كما كان فيما بعد الحرب العالمية الثانية إلى نظام شبكي عنقودي تكون الولايات المتحدة فيه هي المركز المهيمن. تفترض هذه الهندسة أن تقوم كل منظومة إقليمية على ضبط وتوازن بين قوى استراتيجية إقليمية لتدير إقليمها في اطار صراعاتها. وبالطبع فان هذه الهندسة الامريكية للعلاقات الدولية تفترض على التوازي ان تنشأ دوائر لتوازن المصالح تقوم فيها بعض الدول الإقليمية بدور طليعي في إدارة نظام العلاقات وتعمل، بالتعاون مع دول الإقليم الأخرى على ردع القوى المارقة على النظام الإقليمي والدولي وتعمل مقابل ضبط الصراعات الإقليمية. لكن الولايات المتحدة لا تتصرف هنا من منطق استبعاد المنافسين مثل الصين، بل إن المنطق الذي تقوم عليه هذه الهندسة الجديدة هو تطويعهم بفضل جملة من عوامل الإكراه والتحفيز على اتخاذ موقعهم في تقسيم العمل الدولي وفي الهندسة المستجدة للنظام العالمي.
وفي نهاية الأمر تحتاج هذه الهندسة المستجدة للنظام العالمي الكوني لبنية تقسم فيها منظومات الأمن والسلام لأقاليم يسود فيها توازن قوى ديناميكي بين قوى إقليمية ودولية. وتحتل أوربا موقعا متميزا وجوهريا في هذه المنظومة. إذ انها لا تتقاسم مع الولايات المتحدة جملة من القيم الليبرالية بخطوطها العريضة فحسب بل، إنها شريك فعلي في النظام النقدي والمالي والمصرفي والصناعي والعلمي للولايات المتحدة.
لكن مشكلة اوروبا تبقى ناجمة عن حاجتها للتوحد بشكل أفضل. وان تقوم فيها الدول الكبيرة برعاية عملية نمو استراتيجية في الدول الأوروبية الأصغر وخاصة المستجدة منها في الاتحاد. ذلك ان الصراعات الأوروبية لا تزال تشكل عوامل نزاع غير بناءة بين الدول الأوروبية. ويتندر بعض المؤرخين حول حقيقة أن أوربا لم تتوقف الحرب فيها إلا في النصف الثاني من القرن العشرين بعد احتلالها من قبل أمريكا والاتحاد السوفياتي.
لقد لعبت أزمة اليونان وقبرص ومن ثم اللاجئين وبعدها كوفيد دور المسرعات في إظهار الاستحقاقات المطلوبة من الاتحاد الأوروبي. الأمر الذي يضع كلا من ألمانيا وفرنسا امام مسؤولية تاريخية إزاء مستقبل الوحدة الاوربية. بالنسبة للشرق الأوسط تفرض هذه التحولات جملة من المتغيرات. فلقد تراجع موقع الموارد والمواد الأولية في الاقتصاد العالمي، وبالتالي تراجع الريع المتوفر.
هذا الريع كان يوفر وسادة اجتماعية تسمح بتبريد الصراع الاجتماعي رغم القدر الهائل من الفساد وسوء الحوكمة. ومع تراجع حجم هذا الريع وموقعه في اقتصاد الدول في الإقليمية، يعاني نموذج رأسمالية الدولة الاحتكارية الزبائنية من اختناق قاتل. إذ يصبح الانتقال لتحرير القطاع الخاص وإطلاق نمو الاقتصاد الحر واعتماد مبادئ الاقتصاد الليبرالي عوامل حاكمة مخرجا وحيدا لا بديل له.
ذلك أنه مع التراجع الدرامي للريع ومع الضعف الشديد للاقتصاد الريعي بسبب سيطرة اقتصاد الظل وضعف النظام الضريبي، يتراجع العقد الاجتماعي القائم على حكم شمولي. ذلك ان العقد الاجتماعي القائم على القبول بالحكومات الشمولية مقابل إعادة توزيع الريع والثروة، ينهار بسبب شح الريع من جهة بحيث تتراجع قدرة الدولة على الرشوة الاجتماعية، وتتصاعد حاجتها للضرائب، في حين ان دافع الضرائب صار يطالب بحقه وبحصته من الحوكمة والمشروعية. بالتضافر مع هذا التطور تتداعى بشكل صارخ أسس القيم المؤسسة لاشتقاق الشرعية للأنظمة في الإقليم والتي تستند تاريخيا إلى الأيديولوجيا الإمبراطورية الكبرى الإسلامية او القومية.
لعل الأهم من كل ذلك، هو تفاقم الخطر الديموغرافي والذي يقرع الباب بشكل متنام. بل صارت الأجيال الجديدة تشكل أكثر من 60٪ من السكان لتكون عاملاً ضاغطاً هائلاً على بنية الدولة، إذ أصبح قميص الدولة الشمولية أضيق بكثير من تلبية طموحات جيل الشباب الذي يواجه انسداد الآفاق. وأصبح الشباب يهزون بنية الدولة والمنظومة الثقافية والسياسية والعقائدية للدولة الوطنية. وفوق كل ذلك لم ندخل بعد العوامل الإيكولوجية وعوامل تبديل المناخ التي بدأت تقرع جرس الإنذار لتضيف بقوة، المزيد من التحديات حول مستقبل نمو الشرق الأوسط هذا التحول العميق يندرج على كل دول الشرق الأوسط دون استثناء و يستتبع إعادة هيكلة نمط وحصص توزيع الثروة والسلطة. والأخطر من ذلك انه لم يمر في أية دولة، حتى الآن بشكل سلس وطري. إنه تحول غاية في العمق.
ويجري ذلك في الشرق الأوسط، في وقت تنهار مع تراجع أوهام الأيديولوجيا الدينية والقومية كمنتج للعصبية وتفقد الكثير من الصراعات قدرتها على إعادة إنتاج نفسها. وتتداعي مع هذه الأوهام الإمبراطورية الكهنوتية التي روجت لإمكان معالجة فساد نموذج الدولة الريعية بإعادة عقارب الساعة للوراء والعودة لزمن شبه إمبراطوري بصيغة حديثة. فبعد ان صعدت في ظل التراخي الأمريكي في التسعينات، الأوهام الإمبراطورية في إمكانية بناء بديل لنمط التنمية الليبرالي، عبر إحياء الامبراطوريات، تواجه الأوهام الإمبراطورية الفارسية والروسية والطورانية والعروبية أزمة نهائية.
لذلك نستطيع التأكيد بقوة انه رغم الخراب والمآسي التي نجمت عن هذا التحول فأن أوهام قبر الربيع العربي ليست واقعية. ذلك ان عوامله المؤسسة العميقة مستمرة ومخاضه مستمر، الأمر الذي يؤكد انه لم يكن يوما ظاهرة عابرة ولا مجرد نزوة معزولة. وبالرغم من هزالة الجديد وافتقاده لمقوماته الطبقية الحديثة ولمقوماته الثقافية الحداثية فإنه يستمر في النهوض بفضل تفسخ القديم وعدم قدرته على إنتاج حلول للمشاكل المستعصية. تؤكد هذه الوقائع ان عملية التحول الاجتماعي-الاقتصادي الهيكلية ستستمر بقوة يعززها إفلاس القديم وفشله الحوكمي والتنموي