عزة البحرة: حملت حديقتي في حقيبة وقسراً غادرت دمشق
الاستماع للمقال صوتياً
|
لندن – خاص وايتهاوس
حوار تهامة الجندي
البحرة: سوريا أريدها حرة، سليمة ومعافاة، وأريد أن أموت فيها.
يُسجل لصالح مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” أنه الأول في تاريخ الدراما السورية الذي تجرأ على دخول القصر الجمهوري، والكشف عن خباياه عبر مقاربة فنية صاغها السيناريست سامر رضوان، لم تسعَ إلى التوثيق بقدر ما حاولت تشكيل صورة رمزية متعددة المستويات والدلالات لطبيعة النظام السوري الدموية وبنيته الفاسدة، صورة قابلة للتعميم والإسقاط تميزت بالعمق والتشويق والشخصيات المركبة، من بينها (أم فرات) الشخصية التي أدتها الفنانة عزة البحرة، ضيفتي في هذا الحوار:
*أداء الممثلين التعبيري، الجميل كان من أبرز روافع “ابتسم أيها الجنرال”بحسب شهادة أغلب المشاهدين، فأين يكمن السر؟
**الشخصيات الأساسية في المسلسل هم ممثلون محترفون لديهم تجارب وخبرة سنوات عديدة، وهذا يلعب دوراً كبيراً في دراسة الشخصية بعناية واختيار مفاتيحها، بالإضافة طبعًا إلى النص الجيد الذي ساعد على فهم الدور وبلورة الأداء بهذا الشكل.
*أثار المسلسل الكثير من الجدل والآراء المتضاربة، وبعضها وصل حد الإساءة، فكيف شعرت إزاء النقد الجارح؟
أنا لا أنزعج من النقد ولا الملاحظات، حرية التعبير حق للجميع، وأظن أن جماهيرية المسلسل نتجت عن تعرضه لانتقادات كثيرة إيجاباً وسلباً، هذا دفع من لم يحضره أن يبدأ بمتابعته. المسلسل لا يعتمد الوثيقة وليس عملاً وثائقياً، ولا يمكن لأحد أن يدعي ذلك، ونحن جميعاً لا نملك معلومات مؤكدة، لهذا فالشخصيات هي مقاربة لما هو افتراضي في ذهن المشاهدين، والناس أحبت أن تقارن بين فرات وحافظ، وبين عاصم ورفعت. أكيد أن الموالين لا يحبون أن يُنتقد النظام ويوصف بالفساد والإجرام، وبالتالي سيدافعون عنه وهذا أمر طبيعي، ونحن المعارضين الذين تأذينا من هذا النظام ونعيش خارج سوريا، أيضاً من حقنا أن نعبر عن رأينا ونقول إنه نظام فاسد ومجرم.
*المسلسل سياسي بامتياز، وأنتِ مع بداية الثورة السورية دخلتِ المعترك السياسي، فكيف تنظرين إلى علاقة الفنان بالسياسة، هل تغنيه أم تُفقره؟
**تركتُ السياسية منذ عام 2014، قبل ذلك كان لي تجربة في حركة “معاً من أجل سوريا حرة وديمقراطية”، وشاركتُ في تأسيس “شبكة المرأة السورية”، كذلك شاركت في عدة مؤتمرات للمعارضة، وهذه التجارب أغنتني، وفتحت لي آفاق لم أكن أتوقعها على المستويين الشخصي والعام، حضرتُ نقاشات متنوعة، وتعرفتُ إلى الكثير من الشخصيات والأنماط الفكرية المتباينة. الثورة فتحت عيوننا على آفاق وشخصيات لم نكن نعرفها، وكل معرفة جديدة تغني تجربة الفنان وأدائه، وتزيد من خياراته.
*ماذا عن “شبكة المرأة السورية”، وما الذي استطاعت أن تقدمه للنساء السوريات؟
**كنا مجموعة من الناشطات السوريات المهتمات بالمواطنة وحقوق المرأة، وأسسنا “شبكة المرأة السورية” عام 2013 في استوكهولم بدعم من منظمة “أولوف بالمه” السويدية المناصرة للديمقراطية والسلام في العالم. حاليًا أنا في لجنة التنسيق والمتابعة، لكن العمل صعب للغاية، فأي نشاط يحتاج للتمويل، ونحن نحصل على التمويل من “أولوف بالمه” وهو محدود، ولذلك مثلًا لم نستطيع أن نقوم بفعاليات تُذكر لمساعدة المتضررين من كوارث الزلزال في سوريا وتركيا. التمويل الذي يصلنا بالكاد يكفي لنشاطات محدودة مثل إقامة دورات (غالباً على الإنترنيت) للتعريف بالقوانين وبالدستور والكمبيوتر، وكيف يمكن للمرأة أن تكون فاعلة في مجال السياسة والاقتصاد. لدينا مكتب في غازي عنتاب وآخر في السويد، ونحاول جهدنا أن نقيم فعاليات دائمة بالتنسيق مع المنظمات الداعمة للديمقراطية والسلام وحقوق المرأة. لكن الطموح أكبر بكثير مما نستطيع تحقيقه على أرض الواقع، ومع ذلك فنحن مستمرون رغم الصعوبات والمشاكل.
*لعقود طويلة كان السوريون مضطرين للتعايش مع فكرة الأبد واستتباب الأوضاع، إلى أن قامت الثورة وانقلبت حياتهم رأسًا على عقب، فكيف عشتِ هذه المتغيرات على المستوى الشخصي؟
**حالياً أنا في لندن، أمي وأولادي وإخوتي يعيشون في فيينا بالنمسا، وحين خرجنا من سوريا ذهبنا إلى بيروت، ثم إلى مصر فاسطنبول، بعدها اضطررتُ أن أطلب اللجوء إلى السويد، ثم رجعنا إلى تركيا، ومنها إلى لندن. أسستُ ستة بيوت خلال عشرة أعوام، حالة من التشرد وعدم الاستقرار، ولسنا في مقتبل العمر كي نبدأ حياة جديدة كمن خرج في سن الشباب أو الطفولة. نحن نعيش حالة من القهر والحنين الدائم لحياتنا السابقة، عدا أن الطموحات والأحلام الوردية التي خرجنا من أجلها لم يتحقق أي منها على المستوى السياسي.
في دمشق اعتدتنا كل فترة أنا وزوجي ثائر أن نذهب إلى مطعم “أبو العز”، ونتمشى في أحياء الشام القديمة، ونزور قصر العظم وسوق الحميدية، وكان ينتابنا إحساس غامر بالسعادة، والآن أشعر أن أوروبا بكل أبنيتها ومتاحفها لا تساوي عندي حديقة بيتي في الشعلان، ولا توازي أن أشاهد فيديو عن دمشق القديمة صورته فتاة أجنبية.
*ما هي آخر المشاهدات التي تحفظها ذاكرتك عن فترة ما قبل الرحيل؟
**أعطوني مهلة ثلاثة أشهر لكي أغادر سوريا، كنتُ أنظر إلى بيتي وحديقتي وأفكر: ماذا يمكنني أن أحمل معي؟ وكان عندي ثقة تامة، بكل سذاجتنا ذاك الحين، أننا سنخرج لشهرين أو ثلاثة ثم نعود منتصرين، لم نتخيل أبداً أن الشهور ستصير سنوات، كان ذلك لقلة معرفتنا بالسياسة وقلة خبرتنا، لم نكن مدركين لما يُحاك لسوريا، ولم يخطر ببالنا إلى أين سيوصلنا المجتمع الدولي.
قبل مغادرتي ثمة مشهدان لا يغيبان عن بالي، الأول حين دخلتُ الفيسبوك ورأيت صورة حمزة الخطيب، صرتُ أبكي بحالة فجائعية. والثاني حين شاهدت على الفيسبوك لقاءً مع واحد من رجال فرع الأمن في باب مصلى اعتقله فصيل معارض، كان جالساً على كرسي، وكانت آثار الضرب بادية عليه، انزعجت كثيراً وبكيت، لأننا نحن الذين نطالب بالحريات لا ينبغي أن نرد على إجرام النظام بنفس الوسائل والأساليب. هذه النزعة الانتقامية كنت ضدها ولا أزال.
*لو عاد بكِ الزمن، هل تعيدين التجربة؟
**قامت الثورة تطالب بالمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فجأة ظهرت الفصائل الإسلاموية، وصارت تطالب بدولة إسلامية. طرأ تحول مفصلي وخطير، وأصبحنا أمام مفترق صعب وقاسي، نتساءل أين نحن؟ أنا مع المواطنة وحقوق الإنسان، ولا أستطيع أن أحمل الرايات السود، وفي المقابل لا يمكنني ولا بأي حال، ولا تحت أي عنوان أن أؤيد النظام، ولا الإجرام والفساد الذي يرتكبه، وهذا ليس جديداً على سوريا، هذا يعود إلى خمسين سنة خلت، فحافظ الأسد هو من بدأ بالتخريب.
كنت أسال نفسي البارحة هل ستمنحنا الحياة فرصة كي نعود إلى سوريا ونراها كما نحب، أريدها حرة، سليمة ومعافاة، وأريد أن أموت فيها.