الجنرال، من التوريث إلى التعويم
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي – خاص وايتهاوس إن أرابيك
واشنطن – بقلم نشمي عربي
في النصف الأول من العام 2011 – وكان الحدث السوري لايزال في بداياته المعروفة- استمعت في واشنطن لمطالعة مهمة وواقعية لأحد الدبلوماسيين المتميزين، وكان بحكم موقعه متابعاً دقيقاً للوضع السوري.
سأتذكر دوماً جمله لافتة قالها لي يومها: (إياك أن تتصور أن ماحدث في درعا كان هو السبب في المشهد السوري الحالي)، وعندما رأى نظرتي المتسائلة تابع شارحاً: (كل ماتمر به سوريا اليوم كانت ظروفه موجودة وقابلة للإشتعال ومنذ سنوات طويلة، درعا كانت فقط الشرارة التي فجرتها).
أتذكر هذه الكلمات المهمة وأنا أتابع ردود الأفعال المختلفة والمتضاربة بكافة الإتجاهات على مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الذي يعرض حالياً، والذي لا أتوقع أن عملاً درامياً سورياً آخر سبق وحظي بنفس الإهتمام الذي ناله، ناهيك عن الحالة الخلافية الحادة التي أثارها بين السورين على اختلاف مواقفهم السياسية وأماكن تواجدهم.
الإهتمام المكثف مفهوم ومبرر لأسباب متعددة, وإن كنت أعتقد أن أهمها هو أنها المرة الأولى التي يشاهد فيها السوريون عملاً يجرؤ على الحديث عن القضية الأكثر مفصليةً وحيويةً في الشأن السياسي السوري، والتي تشكل عقدة العقد فيه، منذ أول انقلاب عسكري شهدته سورية على يد حسني الزعيم عام 1949 وحتى اليوم، ألا وهي قضية الاستحواذ على السلطة ومن ثم الإطباق عليها، وشكل وحجم الوسائل التي كان بعض السوريين على استعداد لاتباعها لتحقيق الهدفين، وأنهم في الوقت الذي قد يتساهلون فيه في أي موضوع آخر (كإثارة قضايا الفساد والظلم…) إلا أن قضية السلطة تبقى قدس الأقداس الذي ليس لدى أي مطبقٍ عليها أي استعداد حتى للحديث عنها، ناهيك عن تداولها.
مسلسل “الولادة من الخاصرة” مثلاً، وهو لنفس الكاتب، ربما قدم سياقات أكثر تماسكاً ومنطقية من التي يقدمها اليوم في “ابتسم أيها الجنرال”، ولكنه في الوقت الذي تحدّث في المسلسل الأول عن الكثير من الأمور الأساسية مثل الفساد وتَغَوُّل أجهزة الأمن والعديد من القضايا المهمه الأخرى، إلا أنه لم يقترب من الموضوع المركزي والمفصلي وهو السلطة، ووسائل الوصول إليها، وطرق القبض عليها.
القضية الثانية المهمه جداً والتي طرقها هذا المسلسل بعنف، هي إصراره على ربط موضوع السلطة بالبعد العائلي الذي يستند إلى مبررين: الأول هو عملية توريثها، التي جرت على أعين السوريين جميعاً، والثاني هو عملية المحاصصة العائلية في الإطباق عليها ومعها مقدرات بلد كامل، ببشره وشجره وحجره.
الإصرار الشديد لكاتب النص على توجيه بوصلة المشاهد نحو موضوع السلطة تحديداً وكل مايتعلق بها كان واضحاً في استعارته لمقولات محددة وقصيرة من كتاب “الأمير” لـ “ميكافيللي ” ليضعها (كتابةً) في نهاية شارة البدء لكل حلقة، وكأنه يقول للمشاهد: (انظر هنا، فتلك أم القضايا).
ولكن لماذا الربط بين المسلسل ومارافقه من مواضيع، مع ماسمعته من الديبلوماسي حول درعا؟
الربط بسيط ومبرر، وهو أن المشهد السوري على اتساعه اليوم وبكل أطيافه، بين المعارضين والموالين والرماديين، داخل سوريا وفي المهاجر وبلاد اللجوء، وصل إلى درجة من التشرذم والتشظي والتفكك غير مسبوقة؛ وأن الخلافات في وعلى كل شيء، خصوصاً عند من هم في المقلب المعارض، وصلت إلى درجة صار من المستحيل فيها الاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، حتى لاأقول تقبلها، ناهيك عن استحالة الوصول إلى أية توافقات، وعلى أي شيء، وربطاً بذلك فإن حالة الاختلاف المريع بين السوريين اليوم لم تأتِ مع هذا المسلسل قطعاً، ولكنه ربما كان مفصلاً مهماً وضعنا وجهاً لوجه مع الحالة المأساوية التي وصلنا إليها جميعاً، وبأيدينا.
ربما كان أمراً صحياً وحيوياً أن تتشعب آراء السوريين حول المسلسل وتختلف بشدة، وربما كانت مفهومة الأسباب التي دفعتهم لذلك، الغير مفهوم هو إصرار كل طرف على صوابية موقفه وقناعاته ورفضه المطلق لكل مايتعارض معها.
بعض السوريين وصلوا لقناعات ومسلمات حول المسلسل مستندة إلى الجهة المنتجة له والقناة التي تعرضه بما تمثله من حيثية معينة هي إيجابية جداً لحد الإيمان المطلق بها عند البعض، وسلبية جداً لحد الإنكار المطلق لها ولكل مايتعلق بها عند بعضٍ آخر؛ سوريون آخرون مضوا لأبعد من ذلك للحديث عن دور ما للمسلسل للتمهيد لحراك سياسي جديد يربطونه بخطوات عربية للانفتاح على النظام أو على الأقل لحصر مسؤولية ماجرى في سورية بطرف ما في النظام لتبرئة طرف أو أطراف أخرى.
السيناريوهات التي يتداولها البعض اليوم حول الغاية (التي يرونها هم) من وراء المسلسل متشعبة ومختلفة، وكل منها يحتاج لمقالة منفصلة للحديث عنها، وإن كانت هذه المقالة غير قادرة على إثبات أو نفي أي من تلك السيناريوهات لتتبناها بالمطلق أو ترفضها بالمطلق.
الطريف في الأمر أننا نحن السوريون، وبعد أن خرج الشأن السوري من أيدينا جميعاً، لانكف عن مطالبة المجتمع الدولي المؤلف من قوى دولية وإقليمية متناحرة وبأجندات مختلفة (حتى بين أقرب حليفين)، أن يتوافقوا جميعاً على حل للقضية السورية المعقدة، في الوقت الذي لسنا مستعدين فيه لتقبل اختلافات وجهات نظرنا حول مسلسل، ولا حتى الاستماع إليها.
ليس مهماً أبداً عن أيٍ من الجنرالات تتحدث بعض الشخصيات في المسلسل، فقد أثخن جنرالات سورية جراحاتها منذ 1963 ولايزالون. ولكن الجرح الأكثر إيلاماً وفتكاً هو الذي نشترك فيه جميعاً اليوم في تناحرنا وإصرارنا على الاختلاف حول كل شيء، وإمعاننا في الفرقة والتنابذ، وفي الوقت الذي كان من الممكن لهذه الاختلافات أن تكون جزءاً من الموزاييك السوري الذي كنا نظنه جميلاً، فقد آلينا على أنفسنا أن نحيل كل اختلاف إلى خلاف بمرتبة ماريشال، لايقل فتكاً ووحشيةً عن أي جنرال في المسلسل أو في الواقع.
في حمأة ذلك كله لا أرى إلا طرفاً واحداً قادراً على الابتسام الذي يجيده حتى في أكثر المواقف مأساويةً، كان آخرها في حلب، إثر زلزالها المدمر.