القطب الواحد: تراجع أميركي أم تقدم صيني؟
الاستماع للمقال صوتياً
|
بقلم العميد الركن يعرب صخر
أوراق استراتيجية – وايتهاوس إن أرابيك
بانتهاء الحرب العالمية الثانية وويلاتها، انكفأت أوروبا تداوي جراحها وتلملم أشلاءها، تاركة الساحة العالمية لفاعلين عالميين جديدين هما أميركا والاتحاد السوفيتي، بعد أن كانت أوروبا هي المهيمن طوال قرون. وبذلك شهدنا نظاما عالميا جديدا قائما على ثنائية قطبية، ونشوء الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم مترادفة بنشوء أول قانون دولي منصوص.
سرعان ما بدأ السباق على قيادة العالم بين القطبين الجديدين، الرأسمالية والشيوعية، عبر إعداد خطط الجيو-استراتيجيا.
بادرت أميركا عبر خطة الاحتواء (Containment) التي أعدها جورج كينان وتبناها الرئيس الأميركي ترومان لاحتواء الاتحاد السوفيتي بواسطة نشر قيم الديموقراطية وحرية التجارة والاقتصاد والانفتاح، ومنع الشمولية والفكر الشيوعي من التسلل إلى مناطق التأثير الجيوسياسي في العالم التي تمثل بؤر تأثير ومصالح حيوية لأميركا.
تلا ذلك في الخمسينات خطة أو عقيدة الرد الشامل على كل تهديد شيوعي أينما حدث في العالم، وقد مثلت أزمة الصواريخ الكوبية العام 1962 خير تطبيق لهذه العقيدة، قبل أن يحسمها فن إدارة الأزمات بتخلي السوفييت عن الصواريخ في كوبا مقابل تخلي أميركا عن صواريخ برشينغ في تركيا.
ثم برز الشرق الأوسط عامة، والخليج العربي خاصة، كساحة نفوذ لما يختزن من ثروات الطاقة المحفز الأول للنفوذ والسيطرة، ولما يمثله كعقدة ثلاث قارات، رابطا الشرق بالغرب، إضافة لكونه مهد الديانات ومسقط الرسالات، وبالتالي تجسيد هذا الشرق كقلب العالم. على ذلك؛ تأسست عقيدة كارتر في العام 1978 المرتكزة على أن أمن الخليج هو مصلحة أميركية حيوية، أي الحماية الأميركية القوية التي جزمت بالرد العسكري الفوري على أي تهديد لدول الخليج والنفط وإمدادات الطاقة البحرية والبرية.
أتت سياسة ريغان القائمة على دفع الاتحاد السوفيتي إلى سباق حرب النجوم، في الثمانينات، أتت أكلها، فانهار السوفييت العام 1989 ونجحت خطة الاحتواء.
انفردت أميركا بالأحادية القطبية وتسلحت بعقيدة بوش في محاربة الإرهاب لضرب أفغانستان ثم العراق في حرب الخليج الثانية مستغلة غياب أي منافس عالمي أو احتجاج دولي، وذلك للتقرير في كل الكرة الأرضية وللتحكم بالطاقة منبعا وممرا وإمدادا، رافق ذلك ابتكارها للنفط الصخري، ما حقق لها مخزونا واكتفاء ذاتيا للنفط والغاز لخمسين سنة قادمة.
كل هذا وسواه على مدى عقد نهاية القرن الـ 20 وعقد بداية القرن الـ 21 حتى ولاية أوباما، قد خفض الاهتمام الأميركي بهذه المنطقة، وتغيرت العقيدة الأميركية فيه من [أمن الطاقة- أمن الخليج- أمن إسرائيل] إلى فقط أمن إسرائيل كثابت دائم لا يتغير.
لكن ماذا نتج عن ذلك؟ تولد تهديد إقليمي جديد وهو إيران، التي بفعل ضرب أميركا لطالبان عن شمالها، والعراق عن يمينها، شُرّعت لها كل الأبواب، وفتحت لها الساحات لتعبث وتنشر الفوضى.
وعلى المقلب الآخر، وبفعل عامل العولمة المصاحَبة بالتطور التقني الهائل والسريع وتقارب المسافات وكسر الحدود بين القارات والدول لحرية التجارة والتنافس الاقتصادي، ركبت دول مهمة القطار لتعبر إلى الفاعلية العالمية مرتكزة على قدراتها الاقتصادية وإمكاناتها التجارية وتقدمها التقني وثرواتها البشرية، أبرزها الصين والإتحاد الأوروبي واليابان وألمانيا وروسيا والهند وغيرها، لنجد أنفسنا أمام عالم متعدد الفواعل ودول صاعدة بقوة تضرب الساحة العالمية بأقدامها تريد حجز أدوارها في القيادة العالمية.
كل ذلك هدد فرادة القيادة الأميركية وكسر مبدأ الجيو-استراتيجيا القائم على التحكم الجيو-سياسي وقدرات التأثير العسكري والكتلة النقدية والناتج القومي GDP، لتتجلى ظاهرة عولمية جديدة قائمة على الجيو-اقتصادي متقدما على التأثير الجيوبوليتيكي والقدرات المالية. وقد تقدّمت الصين السباق سريعا في هذا المنحى.
فقهت الدول العربية، وبخاصة دول الخليج، أن أمن الخليج لم يعد مصلحة أميركية حيوية بعد انتصار الرأسمالية على الشيوعية وأفول نجم الاتحاد السوفيتي، وأن الصراع الحديث هو اقتصادي تجاري مع التنين الصيني النجم الدولي الصاعد، والمصلحة الحيوية الثابتة فقط هي “أمن إسرائيل”.
والمسار الذي اتبعه أوباما خلال ولايتين يدلل بوضوح على التغيير الجيو-استراتيجي والاهتمامات الأميركية العالمية، وقد أعلنها في خطاب الأمة كعقيدة جديدة “آسيا الباسيفيك” أو “الارتكاز الآسيوي” (Asian Pivot)، والتي بمقتضاها تتصدر منطقة شرق آسيا لتغدو الأولوية الأولى بظل الصعود الصيني، ما يستتبع انسحابا مهما من الشرق الأوسط وممارسة سياسة شرق أوسطية جديدة باتباع أوباما السياسة الناعمة عكس السياسة الصلبة لسلفه بوش، وعدم التدخل المباشر في الأزمات، وتغذية حروب الوكالة، وبالتالي تشريع الأبواب أمام إيران لتنوب عن إسرائيل في إشغال الساحات العربية وشرذمة حكوماتها عبر تقوية ميليشيات وقوى محلية (Non State Actors) لتشتيت الأهداف الإقليمية والعربية.
أجرى أوباما الاتفاق النووي المشؤوم مع إيران ورفع عنها العقوبات ووكلها بالعراق ولم يمنعها في سوريا ولبنان واليمن ولم يضرب الأسد بوردة بعد جرائمه ضد الإنسانية المثبتة وهجماته الكيماوية على شعبه.
ومع قدوم ترامب، أعلنها في خطابات الترشح للرئاسة ومارسها على أرض الواقع بعد انتخابه: التدخل الأميركي المباشر في الشرق الأوسط وتقويض الأنظمة فيه كان خطأ كبيرا، ولن نتدخل إلا بحالتين: إنهاء داعش، تهديد أمن إسرائيل وصون المصالح الأميركية الحيوية، وأن نزعة المغامرة الأميركية في الشرق الأوسط قد انتهت.
إلى ماذا يؤشر ذلك؟ إنه عودة العقيدة الانعزالية الأميركية التي أسسها “مونرو” منذ 150عاما، وانتهت بدخولها الحرب العالمية الثانية.
و بانقضاء أولى سنوات العقد الأول من القرن 21 وانتفاء المهددات العقائدية لها، واستحواذها على المقدرات العسكرية والاقتصادية والمالية والتجارية والتكنولوجية الأولى عالميا دون منازع لعقود قادمة، نزعت أميركا نفسها (وليس كليا) عن أزمات الشرق الأوسط ووسط آسيا، مع المحافظة على أساطيلها في كل المحيطات ومعابرها ونقاط الارتكاز لها في اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا لاحتواء الصين في بحر الصين.
شكل العام 2020 تحولا عن الانعزال في العقيدة الأميركية. وبفعل الأزمة الروسية الأوكرانية وهواجس الطاقة، ورؤية تمدد التنين الصيني، بدأت أميركا تنحو قليلا باتجاه إعادة نفسها كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.. لماذا؟ أولا لأن إيران تخطت حدود الدور المرسوم لها في العراق وسوريا، وثانيا بسبب التمترس الروسي على سواحل المتوسط بالحلف مع إيران، وثالثا لمواجهة الحلف المشترك الروسي- الصيني.
الأهم من ذلك كله كان تمدد التنين الصيني في كل المعمورة وتركيز اهتمامه الآن على المنطقة، ما يشي بأن خطة الاحتواء الأميركية التي نجحت مع السوفييت، يبدو أنها لا تنجح مع الصين، والأكثر أهمية إصرار ترامب على إستعادة الهيبة والقيادة العالمية التي فرّط بها سلفه.
وبالرغم من تحوّل أميركا من السياسة الصلبة (بوش) إلى السياسة الناعمة (اوباما)، وتقلبها بين الديموقراطيين (الدبلوماسية واليسار وطول النفس)، والجمهوريين (استعادة الهيبة واليمين المتطرف)، وبرغم التراجع الجزئي لأميركا في الشرق الأوسط بفعل اكتفائها بمخزون الطاقة المهول لآماد طويل وانصرافها إلى عقيدة احتواء الصين والفراغ الجزئي، تبقى أميركا سيدة المحيطات، مدمراتها وبوارجها تتحكم في معظم المضائق والمنافذ البحرية للكرة الأرضية وممرات الطاقة وطرق التجارة. ولن ولن ننسى مخزونها الطاقوي الهائل وتحكمها بطرقها وامداداتها حتمت تحكمها بأسعارها، والنقد الأميركي الذي لم يزل قاعدة التداول في العالم.
وكذا فإن قيم الديموقراطية والحرية American values و American dream لا تزال مطمح وأمل، ولن تستطيع لا روسيا ولا الصين ونظامهما الشمولي، واللتان وإن اتبعتا الانفتاح والرأسمالية، فهما على المدى المنظور لا تستطيعان أن تكونا البديل عن أم الرأسمالية… هذه هي واقعية القرن 21.
في هذا العصر الذي بات فيه الكون قرية واحدة أبواب منازلها مشرعة، ووسائل الاتصال ووسائط التواصل سهلة ومتاحة، و سيادة حوار الثقافات وكسر الحدود، يحق للشعوب ويحتم عليها أن تنوع في علاقاتها وتحالفاتها على كل المستويات.
لكن الأساس والمرجع في القيادة العالمية (وليس الهيمنة) سيبقى أميركيا، وعلى أميركا أن تحافظ علي ذلك لتؤسس عليه؛ إذ إنتهى زمن الانعزالية والتخلي وترسخت أسس الانفتاح والتعاون.. وعلى أميركا أن تعي ذلك كي تحافظ على موقع ربان سفينة الأرض.