استكشاف عوالم الآلة الدعائية الروسية
بقلم د.سمير التقي - عضو هيئة تحرير وايتهاوس ان أرابيك
الاستماع للمقال صوتياً
|
إنها لمغامرة طريفة ومفيدة جدا أن نحاول استكشاف كنه العقل السياسي الروسي كما يتجلى في منهجه الإعلامي المواكب لتحركاته السياسية والعسكرية في الأزمة الأوكرانية وتجاه أوروبا بشكل عام. فلو تتبعنا مسار هذه البروباغندا في الشهور الأخيرة لحكم الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، سنكتشف تبلور هذا المنهج الإعلامي.
اضطر يانوكوفيتش عام 2013 أمام انسداد الأفق الاقتصادي، والرغبة الجامعة للجمهور الأوكراني ،لإطلاق وعد بالتوقيع على بروتوكول خطة الدخول للاتحاد الأوروبي. لكن لتراجعه عن ذلك تحت ضغط بوتين، سرعان ما أثار غضب الجمهور الأوكراني، ليولد انتفاضة شعبية انتهت بهروبه ومجيء حكومة جديدة. إثر ذلك، هاجمت القوات الروسية شبه جزيرة القرم، وتلتها أزمة اللاجئين، ثم تلاها اندلاع العنف الإثني بين الأوكرانيين الناطقين بالروسية القاطنين شرق البلاد في مايو 2014.
على التوازي مع هذا المسار السياسي المضطرب، تطور التكتيك الإعلامي الروسي بشكل ملفت يدعو للتأمل. وتمثلت براعة هذا التكتيك في ترافق تطور الحجج السياسية والقانونية مع الحراك العسكري على الأرض من جهة ومع الخطط الإعلامية للبروباغندا الروسية. لكن، في حقيقة الأمر، بالغ بوتين في التكتيك. ففي حين أظهرت القيادة الروسية بلا شك براعة ممتازة في إدارة هذه المعركة، لكن تكتيكها كان جيدا أكثر من اللازم إلى حد أنه تجاوز الأهداف الاستراتيجية بحيث فقدت روسيا رجلها في كييف في نهاية الأمر. وفي حين يعّرف غالبية الأوكرانيين أنفسهم على أنهم أوروبيون، اصطدم موقف الرئيس بوتين بمزاجهم ورغبتهم بالانضمام للاتحاد. وتصرفت روسيا بصلافة كبيرة تجاه أوكرانيا حين بدأت بالتهديد وبعدها بالضغط اقتصاديا وأمنيا وعسكرياً.
الخطأ الذي ارتكبه بوتين تمثل في نفاذ صبره، ودفعه لأوكرانيا بشكل متسرع ما بين نوفمبر 2013 حتى فبراير 2014، واندفاعه نحو موقف متشدد من قضية توقيع البروتوكول مع الاتحاد الأوروبي. لكن خسارة بوتين الأهم كانت في أوروبا. لقد روج الكثيرون من الزعماء الأوروبيين لضرورة إتاحة الفرصة لروسيا لتصبح دولة أوروبية قابلة للاندماج بالمجتمع الأوروبي، إضافة لضرورة الاستجابة لهواجسها الأمنية. لكن انحياز بوتين لاستخدام القوة في القرم وتصعيد المجابهة الاستراتيجية في أوروبا كانت مؤشرا إضافيا على خيبة هذه الآمال.
وكرد فعل على العقوبات الأوروبية، ذهب الرئيس بوتين بشكل متسرع أيضا لتوقيع اتفاقيات استراتيجية مع الصين. وفي حين قد يبدو ذلك خيارا ذكيا في الرد على العقوبات الأوروبية، فإن من المهم أن ندرك أن روسيا لا تملك الكثير مما تقدمه بشكل ندي للصين، من دون أن تكون هي ذاتها جسرا للصين نحو أوروبا وبالعكس. إثر ذلك لم يجد الرئيس بوتين بداً من اللجوء إلى الحرب في أوكرانيا. في حين كان بإمكان بوتين تحقيق أهدافه العسكرية بشكل حاسم، لو حرك قواته النظامية، لكنه لجأ إلى تحريك الميليشيات الموالية له والقوات الخاصة غير النظامية والأجهزة الأمنية العسكرية وشبه العسكرية.
حصل ذلك في وقت لم يكن الجيش الأوكراني موجودا عمليا. فلقد استغنت أوكرانيا عن تسليحها النووي والتقليدي في إطار سعيها للانعتاق من الاتحاد السوفياتي. لم يكن تعداد الجيش الأوكراني يتجاوز في هذه البلاد الواسعة الخمسين ألفا مع الاحتياط، ولا يتجاوز الخمس وعشرين ألفا تحت الخدمة، وأقل من نصفهم فقط كان تحمل السلاح.
تكتيكات البروباغندا الروسية
كان التساؤل الملح في حينه، لماذا تلجأ دولة كبيرة بقدرات روسيا الهائلة، لاستخدام الميليشيات والحرب الهجينة؟ فحرب الميليشيات والحرب الهجينة هي حرب الضعفاء ضد الأقوياء. ظهرت عدة تفسيرات لهذا الخيار. أولها عدم ثقة بوتين من ردة فعل الغرب على خطوته، وعدم رغبته بأن يظهر بمظهر الهزيمة في حال حصول الرد. لكن هذه التفسيرات لم تكن كافية. حقيقة الأمر، أن شعبية بوتين داخل روسيا تنبع من كونه يربح ويتوسع ويقضم دولا من دون ان يدفع الكثير من الضحايا. فالرأي العام الروسي هو بالتعريف معادٍ بقوة للحرب ولخسارة الأرواح. في حين تسمح الحرب الهجينة بخوض المعارك بأقل قدر من الخسائر الرسمية او المعلنة.
لقد جرب بوتين ردة فعل الرأي العام الروسي على خسارة أرواح الشباب الروس في العديد من الأحداث. من غرق الغواصات في البلطيق إلى الحرب في سوريا، حيث ما أن تبدأ الإصابات والضحايا بالوصول لروسيا حتى تبدأ مباشرة حركات الاحتجاج ضد الحرب. لكن طالما أن بوتين يربح من خلال التهديد ومن دون خسائر في الأرواح فلا بأس.
النقطة الإضافية التي تفسر اختيار الرئيس بوتين للحرب الهجينة هي أن هذه الحرب تعني بالتعريف انخراط المدنيين بحيث يصبح شعورهم بالخطر دافعا من أجل المزيد من انخراطهم فيها. بعض ملامح استراتيجية البروباغندا الروسية: ترافق هذا التكتيك بتوسيع مجال الاستراتيجية الإعلامية. وجرى تطوير حملة إعلامية تقوم على نفي وجود الأمة والدولة الأوكرانية أصلاً. ففي إطار الدفاع عن عدم التزام روسيا بمذكرة بودابست يقول السيد لافروف “أن هذه المذكرة لم تعد صالحة لأن الدولة الأوكرانية ذاتها لم تعد موجودة”.
وبدأت البروباغندا الروسية في الحديث عن الفاشيين الذين سيطروا على الحكم في أوكرانيا. وجرى ذلك من دون أن تجشم وسائل البروباغندا الروسية نفسها عناء تفسير معنى الفاشية في الحالة الأوكرانية. إنها لا ترى في التظاهرات في ساحة “الميدان” سوى تجمعات مولتها لوبيات غربية مثل لوبي المثليين وبعض المهووسين السويديين والبريطانيين والمعارضة السورية لإحداث انقلاب في أوكرانيا وفصلها عن “وطنها الأم”.
إلى جانب نفي وجود الأمة والدولة الأوكرانية، يجري الترويج لروسيا الجديدة، والعالم الروسي “روسكي مير”، حيث تعيد هذه المفاهيم العقائدية للأذهان العديد من المشاريع والتي سادت أوروبا في أوائل القرن العشرين حول الإثنية اللغوية القومية. بحسب هذه الأيديولوجيا، تشكل اللغة وبشكل خاص اللغة الروسية، أساس الانتماء القومي والولاء الوطني بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه الناطقون بالروسية. فالنطق بالروسية يشترط في أي شخص أن يوكل ولاءه ومصيره وخياراته موضوعيا للمشروع القومي الروسي.
ولا يهم في هذا السياق وعيه الذاتي بالانتماء لدولة أخرى يعيش فيها. فأنت لا تملك هويتك، وبمجرد أن تنطق بالروسية، تصبح انت موضوعيا عضواً في مشروع كوني للقومية الإثنية اللغوية الروسية وتفقد انتمائك لدولتك الراهنة. في هذا السياق لا قيمة لما يسمى ب “الدولة الوطنية” الأوكرانية و الكازاخية والبيلاروسية الخ. ولا قيمة لنظام عالمي يقوم على أساس الدولة الوطنية بل، إن هذه البروباغندا تقوم على رؤية فلسفية ترى أن تطور الحضارة يتمثل في صراع الدوائر الحضارية القائمة على الإثنية اللغوية.
المشروع الأوروبي
على التوازي من هذه التطورات، يظهر في البروباغندا الروسية منذ البداية حديث مكثف عن انحطاط أوروبا وفشل المشروع الأوروبي وتفككه. ويترافق هذا الحديث بتقديم مشروع بديل لأوربا ألا وهو المشروع اليورو-الآسيوي. ليبدو كون الاتحاد الأوربي ذاته انحراف في التاريخ. في حين تقدم هذه البروباغندا، روسيا على أنها الحامية التاريخية للقيم الارثوذكسية وللقيم الأوربية الحقيقية المتسامية في مشروعها اليورو-آسيوي. إذا، لماذا الهجوم على أوروبا والحديث عن انحدارها وانحطاطها؟ ولم العمل على تشجيع كل القوى التي تسعى لتفتيت أوروبا؟ حقيقة الأمر أن روسيا دولة ضعيفة موضوعياً. وهنا لا نتحدث عن قوتها العسكرية بالطبع، بل ان الاتحاد السوفياتي ـ تداعى في ظل واحدة من أقوى لحظاته العسكرية.
روسيا الراهنة ضعيفة في وضعها الراهن، بالنسبة لحجمها و مواردها، ضعيفة بالنسبة لمخزونها الحضاري الثقافي والعلمي العظيم. فهي لا تزال تعتمد من حيث الأساس على تصدير المواد الخام ولا يشكل اقتصادها في أحسن التقديرات 4.5 ٪ من الاقتصاد العالمي. وبهذا المعنى فهي تندرج ضمن تصنيف الدول النامية. وباستثناء السلاح ليس ثمة حضور للتقنية والعلم الروسيين. والأهم هو أن تحالفاتها ضعيفة، وحلفاؤها غير ثابتين وضعفاء. لتعويض هذا الضعف في القوة المطلقة، تميل روسيا لاكتساب القوة النسبية.
فقوة خصوم روسيا هي في توحدهم وتكتلهم عبر منظومات مترابطة من التحالفات الاستراتيجية-العسكرية أو الاقتصادية أو القيمية الأخلاقية المشتركة. ولاكتساب القوة النسبية يمكن للرئيس بوتين إذاً أن يضعف علاقات خصوم روسيا بعضهم ببعض. فأنت تصبح أقوى نسبيا في حال أصبح خصمك أضعف نسبيا. ها هي روسيا تحتج على نتيجة الاستفتاء حول انفصال اسكتلندا عن بريطانيا. وها هي تعزز علاقاتها وتدعم اليمين المتطرف المعادي للاتحاد الأوروبي وللأجانب في أوربا بأسرها، سواء في فرنسا حيث يعلن الحزب الوطني صراحة تأييده شبه الكامل لسياسة بوتين في أوروبا، وينسحب ذلك بالطبع على الأحزاب اليمنية في بريطانيا والنمسا الخ… بل كانت الأحزاب الفاشية هي بالذات الشاهدة على “نزاهة” الاستفتاء على انفصال القرم عن أوكرانيا. من خلال هذه الرؤية لا تغدو أزمة أوكرانيا مجرد أزمة صواريخ، ولا أزمة لحلف الناتو، بل إنها من حيث الأساس جزء من الحملة لتفتيت أوروبا.
نظرية المؤامرة والموقف من المجتمع المدني
تنتقل نظرية المؤامرة للبروباغندا الروسية أبعد من ذلك، إذ تستهدف قوى المجتمع المدني. من حيث المبدأ، البروباغندا الروسية لا تقبل بوجود المجتمع المدني ككيان مجتمعي مستقل. وهي لا تؤمن بل ترفض أصلا وجود أو شرعية الصلات الأفقية بين المواطنين ليتضامنوا حول قضاياهم ومطالبهم خارج الإطار الهرمي للدولة، حتى في روسيا ذاتها. فالمجتمع القوى نقيض لمفهوم الدولة المركزية الروسية العليا التي ترسم مصائر مواطنيها وتفرض وصايتها وأهدافها على الجميع.
من منظورها هذا، فإن منظمات المجتمع المدني في الغرب، ليست سوى جزء من البنية الهرمية الدكتاتورية التي تديرها ويحكمها مركز خبيث متآمر قابع في قمة عواصم الغرب. لتصبح منظمات المجتمع المدني والصحافة بمجملها ومراكز الأبحاث وورش العصف الفكري الاكاديمية بمختلف تفرعاتها في الغرب، دمى في جهاز السلطة الهرمية التي تديرها نخب سائدة في الظلام. نظرية المؤامرة وسيولة الحقيقة: ثمة سمة أخرى تتبلور لدي دراسة سيرة البروباغندا الروسية الحديثة. حيث يمكن ان نقول أنها تقتبس من مناهج ما بعد الحداثة. فلا حقيقة ثابتة ولا مرجعية معتمدة للحقيقة تؤسس على المعطيات والحقائق.
بالنسبة للبروباغندا الروسية الحقيقة سائلة منزلقة! فحين تسقط الطائرة الماليزية فوق أوكرانيا، لا تسعى البروباغندا الروسية لتقصي الحقائق والخوض في الصحافة الاستقصائية، بل، تقوم بعقد ندوة لعدة أشخاص يعرضون فيها حججا متناقضة، فهذا يقول إنه يعتقد أن أمريكا هي التي فعلتها، والآخر يقول إنها بريطانيا والآخر يقول انها السلطات الأوكرانية الخ… المهم تمييع الحقيقة منذ ولادة الحدث.
وحين تتمكن هذه البروباغندا من خلق عالم تنزلق فيه الحقيقة، يختلط عندئذ المعتدي والضحية وتضيع الحقوق والمرجعيات. بحيث حتى لو ظهرت الحقيقة لاحقا، فان مجرد تأخير تبلورها يبدو مكسبا. في صلب الحملة الإعلامية الروسية ضد أوكرانيا نكتشف تكريسها لميوعة الحقيقة. ميوعة الحقيقة ليست هنا مفهوم فلسفي معقد، بل تعتمد على زعزعة أسس ومبادئ الاستنتاج المنطقي البسيط للحقيقة. التناقض لا يربك البروباغندا الروسية، بل يخدمها تماماً حين توظف كل فكرة ونقيضها بحسب الجمهور المستهدف.
إنها تقول من جهة إنه ليس ثمة دولة أوكرانيا، لكنها تعود لتقول إن الدولة الأوكرانية دولة قمعية. تقول أن ليس ثمة أمة أوكرانية ولكنها تعود لتقول إن كل الأوكرانيين متعصبون قوميا. تقول ان ليس ثمة لغة أوكرانية لكنها تعود لتقول إن الناطقين بالروسية في أوكرانيا يجبرون على التحدث بها. تقول إن روسيا قوة كبيرة، لكنها تدعي ان جورجيا تعتدي عليها. وأن روسيا تنقذ أوروبا من الفاشية، لكنها تروج بأن الفاشية ليست سيئة بهذا القدر بل تدعم أحزابها. يعني مجمل هذا النهج الإعلامي عمليا وببساطة، انهيار الأسس التي تقوم عليها مرجعية الحقيقة، مرجعيتها الأكاديمية والصحفية ومرجعية المؤسسات الديمقراطية.
في نهاية الأمر، نجد أن مغامرة مراجعة البروباغندا الروسية ولو بشكل مقتضب هو مغامرة طريفة، وتحمل الكثير العناصر المثيرة للتأمل. وبالنسبة للولايات المتحدة فإن فهم ومقابلة هذه البروباغندا بالشكل المناسب يصبح جزء من مجمل الدفاع عن أوروبا. بل أن القضية الأوكرانية ببعدها السياسي والإعلامي تصبح في صلب المصالح الأمريكية للدفاع عن وحدة أوروبا والدفاع عن التجربة الديمقراطية والليبرالية فيها. وها هي بروباغاندا تمييع الحقيقة وزعزعة مرجعياتها ونفي الدور المحوري للمجتمع المدني، والمؤسسات الديمقراطية القاعدية، وزعزعة التوافق الوطني، حول المبادئ المؤسسة للدولة، تنتقل بالعدوى إلى الولايات المتحدة ذاتها. ورغم أن هذا اللغط قد يسود لزمن ما، لكن من المؤكد أن ما سيبقى ليس غبار البروباغندا، بل ما سيبقى هو ما ينفع الناس، ولكن بأي ثمن؟