عين صقر قريش على جريدة “الوطن” السوريّة
الاستماع للمقال صوتياً
|
هواجس رسمية في صحيفة شبه رسمية
مقال رأي بقلم نشمي عربي
واشنطن – خاص وايتهاوس إن أرابيك
لا أتابع صحيفة الوطن، وأنا شبه متأكد أن الصديق الكبير جمال سليمان لا يتابعها أيضاً، ليس لأنها مصنفة على أنها (موالية)، فنحن لا نؤمن بدقة هذه التصنيفات بين السوريين، بل لأننا نعتقد جازمين أن لا صحافة حقيقية في سوريا منذ عام 1963، بعد أن كانت قد عُطِّلَت في الفترة مابين 1958 و 1961.
للأمر مبرراته المنطقية، فكل مايتعلق بالصحافه الحقيقية وبمنتهى البساطه يتعارض مع كل تجليات الحزب الواحد والقائد الأوحد، والفكر المسطح الذي استشرى وسيطر منذ أصبحت سورية رهينة تسلطهما.
رغم ذلك فهناك مايميز “الوطن” عن غيرها من أدوات البروباغاندا الحزبية والحكومية السورية، ربما أنها بحكم تمويلها (الخاص) تستطيع أن تدعي استقلاليةً ما، ولكننا نرى الأمر بطريقة مختلفة تماماً، ليس لأن كماً كبيراً من هذا التمويل (الخاص) كان يأتي من لدن ماكينة النظام المالية في ذاك الوقت والمتمثلة بامبراطورية “آل مخلوف” البائده، بل بحكم المهمه التي نعتقد أن النظام أولاها للصحيفه في بحثه عن أدوات جديدة لم يكن من الممكن حتى التفكير بها في عهد الأسد الأب، علاوةً على عدم وجود حاجة حقيقية له بها.
أن تلتقط عين “صقر قريش” مقالاً بعينه نشرته الوطن ويتكرم بإرساله لي، فلابد أن يكون في الأمر ماهو ملفت ويستحق التمحيص الشديد والتحليل المركز الذي قمنا به معاً والذي أشكر الأستاذ جمال سليمان على ما أغناني به فيه من أفكار ماكانت هذه المقاله لترى النور دونها.
لم يخلُ إرث الأسد الابن للحكم عن أبيه من تعقيدات إقليمية مهمة، بعضها كان غاية في التعقيد. ولعلَّ الأب (بحصافته التي لايمكن إنكارها عليه) كان مدركاً لمدى مقدرة الابن في التعامل مع بعض هذه التعقيدات، فترك له أيضاً مفاتيح حلولها والتعامل معها، نَزْعُمُ أن علاقته بإيران وأدواتها في المنطقة كانت أحد أهم هذه التعقيدات، التي نزعم أيضاً أن الإبن لم يدركها تماماً ولم يدرك حقيقةً مدى توجس أبيه من كل مايتعلق بها، حتى وإن كان ظاهر هذه العلاقة (قد) يوحي بغير ذلك.
لم يكن الأسد الأب بحاجة لانتظار لحظة وقوع زلزال انتصار الخميني في بداية 1979 ليدرك تداعياته على المنطقة بأسرها، فهو بلاشك استشعر حتمية الوصول لهذه اللحظة الفارقة، إحدى مَلَكَات الأسد المهمه كانت في المراقبة الدقيقة لعلاقة الأنظمة بواشنطن، ولعله قرأ مبكراً أن الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً لن تدخل في مواجهة مع الشعب الإيراني لتثبيت حكم الشاه، كما فعلت أيام مُصَّدَقْ، على هذا الأساس رتَّبَ الأسد أوراقه لمرحلة مابعد الشاه التي رآها آتية لامحاله فقرر الإنفتاح على الدائرة الضيقة المحيطة بالخميني، ولأن الأسد حذر جداً بطبعه فهو لم يفعل ذلك من خلال أقنيته السياسية الرسمية، بل قام (كعادته) بإحالة الأمر لأحد أهم مساعديه الأمنيين الذي أصبح مكتبه في فرع الخطيب مَحَجَّاً للدائرة الضيقة المحيطة بالخميني يقدم لهم تسهيلات عديدة، منها مثلاً إعطاء جواز سفر سوري لصادق قطب زادة (الذي سيصبح أول وزير خارجية لإيران مابعد الشاه) لتمكينه من التجول في أوروبا (كمراسل لصحيفة الثورة) …!
الاستثمار المبكر للأسد الأب في نظام الخميني أملته عليه قراءته الدقيقه للتوازنات في المنطقة، وكان في وعيه الداخلي حاجة وضرورة فرضتها اعتبارات عديدة ليس آخرها علاقته المتوترة دوماً مع جاره العراقي الذي يمثل الجناح البعثي المناوئ له.
خلال شهور قليلة من وصول الخميني للحكم سيثبت هذا الاستثمار المبكر للأسد في نظامه مدى حيويته له، تحديداً في تموز/يوليو 1979، تاريخ وصول غريمه صدام حسين للسلطة المطلقة في بغداد، بعد أن كان رئيساً فعلياً من وراء الستار في آخر سنوات الرئيس (المُسْتَقَال) البكر.
هناك العديد من التفسيرات لعلاقة الأسد الأب المتميزة بإيران والتي تَجَلَّت بوضوح في موقفه المتمايز عن كل الدول العربية من الحرب العراقية الإيرانية الطويلة، لعل أكثرها واقعيةً هو أنه فهم تماماً أن المنطقة مقبلة على صراع محتدم بين إيران التي تحاول تصدير (ثورتها) إلى محيطها من جهة، والسعودية ومن ورائها دول الجوار العربي من جهة أخرى، وهو عرف تماماً كيف يتموضع في هذا الصراع المقبل حتى قبل أن يظهر للعلن، وبقرارٍ ثابت منه أنه سيستفيد من طرفي الصراع في وقتٍ معاً، الأمر الذي مكنته منه علاقات ممتازة مع العربية السعودية لم تهتز ليوم واحد، بل كانت بمثابة غطاء عربي له في كثير من سياساته الإقليمية والعربية، ظهر ذلك تماماً في انخراطه في الشأن اللبناني الذي تحول إلى وجود عسكري طويل وقبض كامل على القرار السياسي للبنان الرسمي وأغلب الفرقاء السياسيين اللبنانيين، ماكان ليتم دون الغطاء السعودي الذي مكنته منه تلك العلاقات المميزة جداً بالسعودية عموماً والملك فهد خصوصاً، والتي تحولت بعد الإنفتاح العربي على مصر مبارك إلى محور عربي وازن تقوده السعودية ومصر وسورية، كان الأكثر تأثيراً في المنطقة لأكثر من عقدين متتالين.
ساند نظام الأسد الأب إيران سياسياً وإعلامياً، دون أن يسمح لها أو لأدواتها في المنطقة بالتمدد في بلده، أو في المنطقة، والعارفين بالشأن اللبناني يعلمون أن قبضة حزب الله على الدولة اللبنانية لم تطبق تماماً إلا بعد الخروج السوري من لبنان.
حتى عندما حاولت إيران التغلغل في أوساط اجتماعية ودينية في سورية وقف الأسد الأب بقوة ضد أي شكل من أشكال هذا التغلغل لأنه يعلم أنه سيقود إلى خلل في ميزان قوى دقيق جداً عمل عليه واستفاد منه دوماً، والأهم من ذلك كله فالأسد الأب لم يخرج يوماً واحداً عن رغبات العربية السعودية التي لم يدخر جهداً في إعطاءها كل التطمينات بأن علاقته بإيران لن تكون يوماً ضدها، وأن سوريا لن تكون الجسر الذي تنفذ منه إيران للمنطقة.
كل ذلك استدعى عملاً تراكمياً طويلاً من الأسد الأب قام به بصبر وجلد خارقين، ولكن النتيجة كانت تستحقهما، استقلال كامل بالقرار السياسي والإقتصادي والعسكري عن إيران وغيرها، وتحكم كامل بأدوات إيران في المنطقة التي يغض الطرف عن نشوءها لكنه يعرف كيف يضع حدوداً صارمه لها، بذلك كان يعطي قيمة أكبر وحاجة أهم للعلاقة معه في حسابات السعودية ومصر اللتان تقاسم معهما قيادة العمل العربي لسنوات.
باختصار شديد فإن الأسد الأب لم يضطر يوماً للعمل على الحد من نفوذ إيران في بلده، لأنه لم يسمح به أصلاً، وبالمطلق، وعلى العكس تماماً فإن وجوده كطرف في المحور العربي الأقوى مع السعودية ومصر جعل العلاقة معه مهمة ومحورية لإيران التي لم ترتح يوماً لقبضة الأسد الأب الصارمة ولا لطريقة تعامله معها، ولكن الإيرانيين بصبرهم الذي لايضاهي يعرفون التعامل مع فن الممكن، وانتظار الظروف التي تجعل من هذا الممكن أكثر استجابةً لأهدافهم، الأمر الذي حصل مع رحيل الأسد الأب وتولي الإبن الوريث.
ولكن ماعلاقة ذلك كله بجريدة “الوطن” السورية؟
في عددها الصادر يوم الأحد 16/10/2022 نشرت الجريدة مقالاً بعنوان: بين الترسيم والاعتراف والتلاعب بالمصطلحات: إيران والسعودية وانقلاب المشهد.
المقال جدير بالقراءة، ولعل أهم مافيه هو أنه جاء على صفحات “الوطن” دون غيرها، ومن دمشق تحديداً، والأهم هو الظروف الإقليمية التي جاء فيها، من ترسيم للحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، وتسهيل ولادة حكومة عراقية جديدة، الأمران اللذان لن يحصلا دون ضوء أخضر إيراني صريح.
يقول المقال، وننقل هنا حرفياً:
((اعتراف أم تطبيع أم ترسيم لا فرق، هذا الاتفاق هو إقرار من الحكومةِ اللبنانية بمن تمثل من أحزاب وكتل سياسية، بالحدود البحرية للكيان الصهيوني، هذا الاعتــراف يعنــي ضمنيــاً أن حالــة الحــرب بين أي طرف مع الكيان الصهيوني إن لم نقل بأنها انتهت، فهي مجمدة ما لم يحدث اعتـــداء مباشــر وهو لن يحدث، هذا يعني بأن شعارات من قبيل زوال إسرائيل وغيرها لم تعد ذات قابلية للصرف)).
طبعاً من الواضح هنا أن الغمز هو من قناة حليف النظام المتمثل بحزب الله، فهو الطرف الوحيد الذي يعلن حالة حرب مستمرة مع اسرائيل ويرفع دوماً شعار زوالها، والذي أصبح بنظر المقال (غير قابل للصرف) ضمن المعطيات الإقليمية الجديدة.
كان منطقياً جداً بعد ذلك أن ينتقل المقال لانتقاد الجهة الأكثر أصالةً والتي تتحكم بقرار حزب الله، فيربط موضوع (الإحتجاجات) التي شهدتها المدن الإيرانية وطريقة تعاطي الغرب معها، بالمشهد الإقليمي الجديد الذي يلاحظه المقال، نقتبس مرةً أخرى:
((إذا افترضنا فعلياً أنه لا يمكننا التعاطي مع الاحتجاجات التي تجري في إيران اليوم بصورةٍ منعزلة عن دور الجهات الغربية في تأجيج الحالة إعلامياً، وهو ما دفع وزير الخارجية الإيراني للحديث صراحةً عن الفرق بين الاحتجاجات والتخريب ما يعني فعلياً إقراراً بوجود احتجاجات، فإننا بشكل تلقائي علينا أن نعترف أن وقف هذه الاحتجاجات، أو لنكن أكثر دقة، تبديل طريقة التعاطي الغربي مع هذه الاحتجاجات، سيكون أو كان لهُ ثمن)) …
المقال إذاً يعبر عن حالة توجس شديد في أوساط النظام من طريقة تعاطي إيرانية جديدة مع الوضع الإقليمي ليس له مكان فيها … هذه اللحظة تحديداً هي التي كانت دوماً في ذهن الأسد الأب وعمل حثيثاً على عدم الوصول إليها.
يختم المقال هواجسه (المحقة) بالقول، ونقتبس أيضاً:
((القضية هنا ليست عواطف، في السياسة دعونا نضع العواطف جانباً لأن كل قرار سياسي ممزوج بالعواطف هو قرار ساقط، السياسة أولاً وأخيراً هي الواقعية، من كان قبلَ أشهر يتحدث بانقلاب كهذا في المشهد، ربما إن لم يتهموه بـ«العمالة» فسيتهموه بالجنون، اليوم تجاوزنا مرحلــة العمالة والجنون إن تعاطينا بواقعيــةٍ مع ما يجــري أمامنــا لنسأل: أيــن نحــن من كل هذا الانقــلاب في المشهد؟!)).
السؤال المهم جداً الذي اختتم به المقال مُستَحَق بجدارة، ولعل الإجابة عليه ستكون مُستَحَقَه أيضاً وبجدارة مِن المسؤول عن طريقة التعاطي الجديدة بين طهران ودمشق والتي لاتشبه قطعاً طريقة تعاطي الأسد الأب، لا أَدلَّ على ذلك أكثر من حقيقة أن هذه الهواجس تأتي على صفحات “الوطن” بمايفيد أن العلاقة الجديدة بين الأسد الإبن وطهران لاتسمح بهذا النوع من الحوار الجدِّي والمشروع حتماً.
هذا الفهم المبرر للمشهد الإقليمي الجديد والمليء بالهواجس من طرف النظام والذي عبر عنه المقال هو تماماً كالطالب الذي استوعب مقرره الدراسي بوضوح شديد …. بعد نهاية العام الدراسي …
ولكن لماذا إثارة هذا الموضوع في هذا التوقيت الآن؟
الجواب واضح وسهل لمن يقرأ المشهد الإقليمي بهدوء ورَوِيِّة، ومرتبط بالحراك الرسمي لبعض الدول العربية الساعي للإنفتاح على النظام بهدف إبعاده عن دائرة النفوذ الإيراني، الأمر الذي لم ولن يتحقق ولسبب بسيط جداً، وهو أن الطرف السوري لم يعد يملك من أدوات التعاطي مع الشأن الإقليمي مايسمح له باتخاذ مثل هذا القرار والذي سيكون له أكلافه العالية جداً عليه.
ربما كانت العربيه السعودية هي أكثر من قرأ المشهد الإقليمي بوضوح شديد، ما دفعها للتعاطي مع إيران مباشرةً، ولأول مرة، بعيداً حتى عن تأثير الولايات المتحدة.
سواءً نجح الإتفاق السعودي الإيراني الذي أعلن من بكين أو لم ينجح، إلا أنه يؤكد أن زمن التعاطي مع طهران عن طريق دمشق ولَّى ولن يعود، وأن الموضوع السوري برمته لم يعد سوى رقماً بسيطاً في معادلة إقليمية شديدة التعقيد، وأن محاولات إبعاد دمشق عن دائرة النفوذ الإيراني ليست سوى سراب يحسبه الظمآن ماء.