امرأة/رجل.. وسياسة Gender Apartheid
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي بقلم مرح البقاعي
لعل أقدرَ عامل في مساعي تحرّر المرأة، والأكثر نفاذاً، يكمن في خروجها للعمل وتحقيقها عائداً مادياً يسمح بتحررها الاقتصادي من التبعية المطلقة التي يفرضها اعتمادها على المعيل الرجل في سبل معاشها اليومي، زوجاً كان ذاك المعيل أو أباً أو ابناً.
أما خروج المرأة إلى سوق العمل فسيكون مشروطاً بتحقيق سبل حمايتها من التحوّل إلى ضحية لظروف العمل ذاته، إذا ما كانت تلك الظروف غير عادلة. وكذا يرتبط بضمان عدم استغلالها كطاقة بديلة ويدٍ عاملة أقل أجراً من مكافئها الرجل، بل وأكثر تحمّلاً لظروف عمل قد لا يراعى فيها حماية العاملات وتأمينهن صحياً.
كما يأتي في أولويات حقوق المرأة العاملة، بل أشدها ضرورة، أن تكون في مأمن وحماية كاملة من التعرّض للتحرش الجنسي. وفي حال وقوعه، سيتمّ تجريم من قام به وملاحقته تحت طائلة القانون.
من نافلة القول إن لبّ مسألة التحرر المتعاقبة على مر الأجيال وعبر التاريخ المديد وصولاً إلى مستقبل ينهل من الماضي كل ما فيه من نضارة، إنما يقع في عمق ثقافة المجتمع ذاتها. فمجتمعات الشرق الأوسط هي مجتمعات مسلمة عامّة، حيث يشكّل الإسلام مكوّناً ثقافياً أساسياً في تركيبتها الثقافية الجمعية.
أقرّ الإسلام الحنيف حق المرأة في العمل والاستقلال الاقتصادي بهدف تأمين متطلباتها ومواصلة حياتها إذا ما تعرضت لفقدان المعيل، وجعلها بذلك قادرة على أن تقف في وجه التحديات الاقتصادية التي تواجهها من أجل استكمال مسيرتها الحياتية لها ولعائلتها بكرامة وحرية واستقلال.
ووصل الإسلام في تمكينه للمرأة منذ عهده الأول إلى أنه لم يحرّم وصولها إلى مواقع ريادية متقدمة، بل إن الأدبيات الإسلامية تأتلق بأسماء نساء ساطعات تركن بصماتهن في عصرهن من أمثال الملكة أروى بنت أحمد الصويلحي وفاطمة الزهراء وخديجة بنت خويلد وولّادة ابنة الخليفة المستكفي وشجر الدرّ وغيرهن من الرياديات في العلم والتجارة والسياسة والفكر ممن أغنين تاريخنا بحسن الإدارة والقيادة والتدبير وبلاغة الشعر والعبارة.
أما عن سياسة الفصل العنصري بين الرجل والمرأة أو (Gender Apartheid) وأضادها – وأعني بالضد مقاربة الطرفين على أنهما متشابهان لا متكاملان كما يجب تصنيفهما – ورغماً أني أنشط في غير مجموعة دولية لتمكين المرأة، إلا أني في الوقت عينه لا أؤمن بحركات التحرر النسائية المغلقة والحصرية، ولا أجد مبرراً للعزل وحياكة التاريخ البشري والإنساني بأيدي جنس بشري واحد، امرأة أو رجلاً، فالأمور لا تصحّ في هذا القالب الفج.
ولطالما حاربتُ أشكال التهميش والإقصاء ورفض الآخر لأي سبب كان عنصرياً أو جنسياً أو طائفياً أو عقائدياً. ومن هذا المبدأ أنطلق من قناعة لي في حتمية هدم جدار العزل بين المرأة والرجل، فكلاهما يشكلان قطبي المعادلة الحياتية في السياسة والمجتمع، وكلاهما بحاجة إلى دعم المجتمع والدولة من أجل أن يشتركا، يداً بيد، في بناء حياة أفضل للأجيال القادمة.
أما الحركات النسائية، السياسية منها والمدنية، فمطالبة أكثر من غيرها بالانفتاح والتعاون مع الرجل لتحصل على الدعم والفهم في آن من طرفه، فهو يشكّل النصف المقابل (لنقل القوة الخشنة) من المجتمع، بينما تشكّل هي النصف الأصل (لنقل القوة الناعمة).
فصل المقال يكمن في المرتجى من حركات التطوّر والتحديث المجتمعي وقدرتها على تغيير ذهنية الرجل أولاً: التغيير في نظرته إلى المرأة والاعتراف بها على أنها عقل وطاقة كامنة وليست جسداً أو أداة للفرجة والمتعة وحسب. فالمرأة شخصية ذات إرادة وعقل تماماً كما الرجل، وبإمكانها أن تقرر مصيرها وتشارك في تقرير مستقبل عائلتها ومجتمعها أيضاً. والمرأة اليوم متعلّمة وناشطة ومساهمة في اقتصادات بلدها من خلال انخراطها في الأعمال والمهن، وهي في نفس الوقت مربية أجيال وصائغة عقول وقلوب رجال ونساء المستقبل من خلال رعايتها لأسرتها وتوجيهها المستنير لأبنائها وبناتها.
لم يعد ممكناً في القرن الحادي والعشرين اختصار المرأة من خلال إلحاقها بالرجل، والحد من تحررها أو منعها من التحرّك بمفردها بوصفها “الضلع الناقص” الذي قد يتعرض للغواية والمتاعب. المرأة قادرة اليوم على أن تدافع عن نفسها وتحميها بغض النظر عن وجود الرجل أو غيابه في حياتها. المسألة تقع في تغيير الثقافة الاجتماعية التي تحصر المرأة في دائرة الشكوك والهوس الغريزي عند الرجل من جهة، والمجتمع ككل من جهة أخرى. والمطلوب في هذا الشأن هو رفع الحجاب عن ذهن الرجل أولاً، ثم رفع الوصاية عن المرأة الراشدة ثانياً، والتعامل معها كرافد إنساني مكمّل للرجل وليس مجرد “خيال مآتة” واهياً ويباباً.
أما المجتمع المدني ومنظماته التوعوية والتمكينية، فستلعب مجتمعةً دوراً محورياً في إعادة تأهيل المجتمعات بطرفيها الخشن والناعم. فالمجتمع المدني يشكّل عادة العنصر المحفّز للأقليات المغلوبة على أمرها. وقد يكون الأمر مضحكاً ومثيراً للسخرية عندما ندرج النساء اللواتي يشكّلن ما يزيد على 60% من المجتمعات الشرق أوسطية ـ أي الغالبية ـ ضمن مصنّف الأقليات! لكن -حقيقة- المرأة، كمعظم الأقليات، مغدورة الحقوق في شرقنا الكليم.