كنتُ في سوريا – البلد الذي غيّر العالم
الاستماع للمقال صوتياً
|
قصة سوريّة من جنديرس بقلم “ليديا بولغرين” تنشرها صحيفة نيويورك تايمز، وتنقلها إلى العربية مرح البقاعي على منصة وايتهاوس إن أرابيك
هي لا تتذكر الزلزال الذي قسم ظهرها وابتلع ابنتيها. إنها السوريّة خيّرة الحلبوني، تعرف فقط ما قاله لها زوجها في حينها. في منتصف الليل اهتزّ المبنى، أمسك محمد بابنته بيسان وابنهما علي، وصرخ مخاطباً خيّرة: احملي الصغيرة مياس واركضي معي.
بشكل غريزي، مدت يدها إلى وشاح رأسها، ثم … لا شيء.
أول ما تتذكره خيّرة حين صحت من الصدمة أنها وسط كومة من الأنقاض. رأت شعاعاً صغيراً من الضوء، ثم بعض من الأحذية. صرخت.. بحثت عن ابنتها.. لقد انقضى ما يقرب من 30 ساعة.
الأحذية كانت لعمال الإنقاذ والجيران الذين كانوا يبحثون عن ناجين.
في النهاية أخرجوها. كان عمودها الفقري مكسوراً وذراعها وعظام وجنتيها مهشمين. لكنها كانت على قيد الحياة. أخذوها إلى المشفى. المشفى كان يغص بمئات الضحايا والمصابين، وكانت خيّرة على الأرجح تعاني من نزيف داخلي ولا يمكن إنقاذها.
تحمّل زوجها محمد محنته. كان قد فقد ساقه اليمنى في قصف على ضاحية في دمشق تسمى حرستا في وقت سابق من الحرب في بلاده قبل أن ينزح إلى الشمال.
عندما اهتز المبنى، أدرك بسرعة أنه سيكون من الأسرع والأكثر أماناً هو محاولة الوصول إلى السطح من شقتهم في الطابق العلوي بدلاً من النزول إلى الطابق الأرضي.
لكن، بمجرد صعوده، تحطم الجدار الأيمن من الدرج على بيسان، ما أسفر عن مقتلها على الفور. قطعة من حديد البناء المسلّح اخترقت جمجمتها.
“أختي سقطت في الحفرة!” بكى علي متوسلاً والده للعودة. “أخرج أختي من الحفرة!”
كانت عائلة الحلبوني من بين مئات الآلاف من العائلات في جنوب تركيا وشمال سوريا التي ضربتها الزلازل هذا الشهر. تسببت الزلازل المتتالية في كارثة غير مسبوقة، ما أدى إلى دمار شبه شامل للمدن وتحويل عدد لا يحصى من المنازل إلى أكوام من الحجر والفولاذ والغبار. مات ما لا يقل عن 48000 شخص. وقع الزلزال الأول في الصباح الباكر بينما كان الناس نائمين. لقيت عائلات بأكملها حتفها في أسرّتها حيث انهارت الأسقف الإسمنتية على النيام.
هنا في شمال سوريا، تأتي هذه الكارثة بعد ما يقارب 12 عاماً عاشها السوريون تحت وطأة أكثر الصراعات وحشية واستعصاءً في القرن الحادي والعشرين. بدأت الحرب في سوريا على أنها انتفاضة مدنية مثل العديد من الانتفاضات الأخرى في أنحاء العالم العربي في أوائل العام 2010، وسط مطالب شعبية بالحرية.
أسرعت حكومة بشار الأسد لقمع التظاهرات بالرصاص، وتحولت حركة الاحتجاج إلى تمرد مسلح، وأصبح الصراع ساحة معركة بالوكالة للخصوم الإقليميين: المملكة العربية السعودية وإيران.
الخسائر البشرية في الحرب مروّعة. تقول الأمم المتحدة إن أكثر من 300 ألف مدني قتلوا. وخلصت تحقيقات متعددة إلى أن قوات الأسد ألقت البراميل المتفجرة على المدنيين، وقتلت الأحياء خنقاً بالأسلحة الكيماوية ودمرت المستشفيات عمداً. اختفى ما يقارب من 100000 شخص، معظمهم على أيدي أجهزة مخابرات الأسد التي لا ترحم، وفقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان. فر أكثر من 13 مليون سوري، أي أكثر من نصف السكان السوريين. يعيش اليوم حوالي 90 بالمائة من السوريين في حالة من الفقر.
وبدعم عسكري من روسيا، هزم الأسد المعارضة المسلحة، ودفع الصراع إلى طريق مسدود.
يقول تشارلز ليستر، الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن إنه “مع تراجع حدة القتال وتوغل الأطراف المختلفة، بدت الحكومات في الغرب متشائمة بشأن سوريا، واستسلمت للوضع الراهن”. ويتابع “لقد كانت سوريا منذ فترة طويلة مشكلة نفضّل للأسف احتواءها بدلاً من بذل قصارى جهدنا لمحاولة حلها”.
ومع تدخّل روسيا بقوة لدعم الأسد، فإن القوى الإقليمية التي كانت في يوم من الأيام تعارض بشدة حكمه، تبدو اليوم مستعدة لرأب الصدع معه. وقد أفادت قناة العربية أن إحدى أولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بعد الزلزال جاءت من المملكة العربية السعودية.. قبل بضع سنوات فقط كان هذا الأمر غير وارد على الإطلاق.
تمثل سوريا واحدة من أعقد حالات الدبلوماسية في العالم، وقد أصبحت مهمة حل هذه العقدة أكثر صعوبة مع غزو روسيا لأوكرانيا. تركيا على سبيل المثال هي طرف فاعل رئيسي في سوريا، وهي عضو في الناتو، ومع ذلك لديه علاقات متقدّمة مع روسيا، ويبدو أنها على استعداد لتطبيع العلاقات مع الأسد.
هذا حال معظم دول العالم أيضاً، فبسبب حرب روسيا على أوكرانيا والصراع المتنامي بين الصين والولايات المتحدة، تراجع اهتمامهم بالشأن السوري.
قال لي لاجئ سوري في تركيا في أعقاب الزلزال: “العالم لم ينسنا وحسب، إنهم لا يعرفون أننا موجودون!”
إنه عالم تخلى عن الشعب السوري بكل أسف. عائلة محمد الحلبوني عاشت وعانت في سوريا. لقد فروا أولاً من منزل أجدادهم بالقرب من دمشق في العام 2018 على أمل بقاء الأطفال في مأمن من القصف. ذهبوا في البداية إلى محافظة إدلب، حيث مكثوا مع أقاربهم لفترة، ثم انتقلوا إلى أن استقروا أخيراً في جنديرس. هنا، وجد محمد مبنى سكنياً غير مكتمل، وبدأ بتأهيله لسكن عائلته بيديه العاريتين، وبواسطة كتل من الطوب الأسمنتي.
استقروا في حياة فيها سلم نسبياً، ووجد محمد عملاً معقولاً ادّخر منه ما يكفي لشراء شاحنة استخدمها كعمل حر لنقل البضائع، وأنهى بناء شقة في الطابق العلوي.
ثم جاء الزلزال.
بحث محمد بشكل محموم عن زوجته وابنته، وبمجرد أن وجدهما أحياء تحت الأنقاض، اضطر إلى الانتظار أكثر من 24 ساعة حتى يساعد رجال الإنقاذ في تحريرهما. تم نقل خيّرة ومياس إلى المستشفى. تحدت خيرة توقعات الأطباء بأنها ميتة.. وستعيش.
في فوضى المستشفى تحرّك محمد على عكازاته من جناح إلى آخر بحثاً عن ابنته مياس بجنون. لا أحد يعرف مكانها.
قال له الأطباء أن ينظر في الخارج. وهذا هو المكان الذي وجد فيه محمد جثة ابنته الثانية.
تم انتشال مياس من تحت الأنقاض حية، لكنها الآن قد فارقت الحياة.