أمر ما يجب أن نقدّمه لسوريا
الاستماع للمقال صوتياً
|
13عاما من الأزمة المستمرة تتجه نحو انهيار حتمي
بقلم تشارلز ليستر، مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط.
نقلته إلى العربية مرح البقاعي
من المقرر أن تدخل الأزمة السورية عامها الثالث عشر في شهر آذار/مارس. وعلى الرغم من أن مستوى العنف في البلاد لا يزال منخفضا نسبيا اليوم مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أن الأزمة ما زالت بعيدة جدا عن نهايتها.
داخل سوريا، يوجدما لا يقل عن ست بؤر من الصراعات المنفصلة تشمل جهات فاعلة داخلية وحكومات أجنبية لا تزال مستعرة حتى يومنا هذا، وكلها ترسل إشارات تصعيد أكثر من كونها تهدئة.
البلاد في حالة خراب، تمزّق المجتمع، ونظام بشار الأسد مازال منبوذا دوليا.
وتستمر استطلاعات رأي تُجرى دوريا بين اللاجئين السوريين في الدول المجاورة، بالتأكيد على الغياب التام لديهم لأية نية في العودة إلى سوريا التي يحكمها الأسد. وفي العام 2022 وحده ارتفعت الهجرة السورية غير الشرعية إلى أوروبا بنسبة 100 بالمائة، ومن المحتمل أن يكون هذا نذيرا لما سيأتي في العام 2023.
في السنوات الأخيرة، أصبح من الشائع سماع مزاعم بأن “الأسد قد انتصر” أو أن “الحرب قد انتهت”. وسواء جاءت تلك الآراء بسبب التعب من الحرب أو نتيجة لتحليل واقعي، فإنها غير دقيقة في توصيف الماضي، تماما كما هي غير دقيقة اليوم. فمع الانتخابات الوشيكة في تركيا، والصراعات الروسية في أوكرانيا، وأزمة الطاقة الإيرانية، والأعمال العدائية الإقليمية المستمرة المرتبطة بإيران، فإن احتمالات حدوث تطورات كبيرة مزعزعة للاستقرار في سوريا هذا العام كبيرة.
التحذيرات من موجات فوضى جديدة في سوريا ليست بالشيء الجديد، لكن يبدو أن العام 2023 سيكون عاما من عدم الاستقرار الذي بإمكانه أن يغير قواعد اللعبة. وعلى الرغم من أن التطورات الفريدة في تركيا وروسيا وإيران من المرجح أن تساهم في إحداث تغييرات كبيرة، فإن الديناميكية الأكثر أهمية تتعلق بالاقتصاد وبالأخص الوضع داخل مناطق النظام.
الوضع المعيشي المتدهور في مناطق النظام
مع دخولنا العام 2023، يخرج الانهيار الاقتصادي السوري بسرعة عن سيطرة النظام. لا يزال أكثر من نصف البنية التحتية الأساسية في البلاد مدمرا، ويعيش 90 بالمائة من السوريين حاليا تحت خط الفقر، ويعتمد 70 بالمائة على المساعدات الخارجية.
قبل عام واحد فقط، كان الدولار الأمريكي الواحد يساوي 3600 ليرة سورية – لكنه الآن يساوي 6850 ليرة سورية. الميزانية العامة لهذا العام هي الأدنى على الإطلاق في سوريا. وفي محاولة للحد من الضغط على العجز المالي للدولة، فرض النظام مزيدا من التخفيضات على الدعم الأساسي بقيمة حقيقية تبلغ 40 في المائة.
الظروف المعيشية الأسوأ اليوم هي في المناطق التي يسيطر عليها النظام. فاليوم “الجيد” في العاصمة دمشق حاليا هو اليوم الذي يحصل فيه السكان على ساعتين أو ثلاث ساعات من الكهرباء، بينما يلجأ الكثير من الناس إلى حرق قشور الفستق الحلبي والمطاط وحتى الفضلات البشرية طلباً للدفء في المنزل.
مع ارتفاع مستوى التضخم، بلغ متوسط الراتب الشهري في دمشق اليوم 100 ألف ليرة سورية(ح والي 15 دولارا)، بينما تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد تقدّر الآن بين 2.8 مليون ليرة سورية (حوالي 427 دولارا) و 4 ملايين ليرة سورية (حوالي 611 دولارا).
وبينما ارتفعت تكلفة المعيشة في جميع أنحاء سوريا، لكنها قفزت بشكل ملحوظ في مناطق النظام منذ أواخر العام 2022 بعد قرار إيران بمضاعفة سعر النفط المقدم إلى سوريا إلى 70 دولارا للبرميل، بل والمطالبة بالدفع المسبق بدلاً من الإقراض بالدين كما فعلت طوال الأزمة.
نتيجة لهذه السياسة الجديدة لإيران مدفوعة بالأزمة الاقتصادية المحلية، انخفضت شحنات الوقود إلى سوريا بنسبة 52 في المائة بين أكتوبر ونوفمبر 2022، وفي الأشهر الثلاثة التي تلت ذلك، قدمت إيران وقودا أقل لسوريا مما كان عليه في أكتوبر 2022 وحده. غادرت آخر سفينة إيرانية محملة بالنفط إلى سوريا في كانون الأول/ديسمبر الماضي، ولا يبدو أن هناك المزيد من السفن المخطط لها حتى آذار/مارس القادم، ما يشير إلى أن أزمة الوقود في سوريا في ذروة الشتاء لا تزال في بدايتها.
قدمت الميزانية السنوية 30 في المائة فقط من احتياجات سوريا من الوقود للعام 2023، لكن ذلك كان بتكلفة الإمدادات الإيرانية العام الماضي. وكان لهذا الانخفاض الكبير في العرض وفرض إيران لشروط الدفع النقدي تأثير كارثي على مناطق النظام في سوريا. ففي غضون ثلاثة أشهر، ارتفعت تكلفة السلع الغذائية الأساسية بنسبة 30 في المائة وتكلفة الوقود بنسبة 44 في المائة. الراتب الشهري بالكامل يشتري حاليا حوالي 2 جالونا من الغاز. ومع الارتفاع الشديد في تكلفة النقل والكهرباء التكميلية، أصبح الناس غير قادرين بشكل متزايد على الوصول إلى العمل، والمصانع والمخابز تغلق أبوابها، صناعة الألبان تنهار، وتم تقليص أسبوع العمل إلى أربعة أيام. ولولا سرقة روسيا للحبوب الأوكرانية العام 2022، لكانت سوريا أيضا في خضم أزمة قمح شديدة.
السوريون للأسف ليسوا غرباء عن المعاناة، لكن ما يحدث اليوم داخل مناطق النظام غير مسبوق، رغم أنه يأتي في الوقت الذي وصلت فيه الأعمال الحربية إلى أدنى مستوياتها. مع اختفاء الطبقة الوسطى في سوريا وهجرة الأيدي العاملة والمهنية، فإن الوضع يولّد ضغوطا كبيرة.
الأمن ينقض على رجال الأعمال
كما هو معتاد في اقتصادات الحرب، فإن أولئك الذين يحملون السلاح يفترسون غير القادرين في الدفاع عن أنفسهم. فقد أفادت مصادر موثقة من مناطق النظام عن عمليات ابتزاز “منهجية” للشركات الصغيرة والمتوسطة، بل وحتى الأكبر منها، من قبل أجهزة الأمن النظامية.
ومدفوعا بالجشع والفساد والهيمنة وأيضا حاجته الملحة لملء خزائنه الفارغة، قامت عناصر النظام منذ العام 2020، وبهدوء شديد، بطلب “فدية” على أموال المئات من نخبة رجال الأعمال المقربين من النظام نفسه، وتم ترهيبهم بل وتهديدهم بتقويض أعمالهم.
في الجنوب السوري تتصاعد حالة عدم الاستقرار، حيث تعتبر محافظة درعا الجنوبية المنطقة الأكثر اضطرابا في سوريا. وفي المنطقة المجاورة في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، استمر المتظاهرون على مدى سبعة أسابيع بالخروج في تظاهرات شعبية في وسط المدينة مطالبين بالتغيير السياسي والإصلاحات الاقتصادية والإفراج عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين والتوصل إلى تسوية سياسية تفاوضية للأزمة السورية.
كما تتصاعد الأصوات في التعبير عن الغضب من فساد النظام وعجزه ، لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى بعض الموالين للنظام بدأوا بالتساؤل عن قضايا الفساد – بعضهم يختفي لاحقا بظروف غامضة أو بالاعتقال.
جمهورية الكبتاغون
بينما يدفع الانهيار الاقتصادي السوريين في ظل النظام إلى حافة الهاوية، فإن النظام نفسه أصبح أكثر ثراءً مما كان عليه في أي وقت مضى. وعلى الرغم من تقارير التحقيق المتكررة ، لا تزال شخصيات النظام المدانة دوليا تتلقى عشرات الملايين من الدولارات من أموال الأمم المتحدة. ووفقا لدراسة حديثة، تم صرف ما لا يقل عن 140 مليون دولار من أموال مشتريات الأمم المتحدة في عامي 2019 و 2020 إلى كيانات مملوكة ومرتبطة بأشخاص مشبوهين منهم ماهر الأسد ونزار الأسد وسامر فوز وفادي صقر – وجميعهم خضعوا لعقوبات بسبب تورطهم وارتباطاتهم بجرائم الحرب.
ومع ذلك، وبالرغم من عزل النخبة المحسوبة على الأسد بشكل متزايد عن الاقتصاد العالمي، تحول النظام إلى المخدرات كمصدر للدخل اللاشرعي، وأصبح دولته بؤرة مخدرات بامتياز. في العام 2021، صادرت السلطات في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط وفي مناطق بعيدة مثل السودان وماليزيا ونيجيريا ما لا يقل عن 5.7 مليار دولار من الأمفيتامين المصنع في سوريا والمعروف باسم الكبتاغون. وفقا لمسؤولي المخابرات الإقليميين، تمثل المضبوطات 5-10٪ فقط من إجمالي تجارة المخدرات السورية، ما يعني أن قيمة تجارة 2021 كانت على الأقل 57 مليار دولار – ما يقرب من تسعة أضعاف ميزانية سوريا وأكبر بكثير من إجمالي عائدات كارتلات المكسيك. بالطبع، لا يتم استخدام هذه الأموال لمنفعة الشعب في سوريا، إنها تملأ فقط جيوب النخبة الثرية الموالية للأسد.
وبسبب دورها الريادي في تجارة الكبتاغون الضخمة هذه، تبرز الفرقة الرابعة في النظام السوري بسرعة ككيان ذي قوة هائلة لا منازع لها. وبقيادة ماهر شقيق بشار الأسد، بدأت الفرقة الرابعة في الأسابيع الأخيرة بتوسيع نفوذها بشكل كبير في مناطق النظام بافتراض السيطرة الفعلية على جميع طرق النقل التي تربط لبنان والأردن بسوريا، وجميع الطرق الرئيسية في غرب وجنوب سوريا. وهناك حملة تجنيد جماعية جارية لإدارة نقاط التفتيش التي تتقاطع مع شبكة الطرق الواسعة هذه، ما يضمن طرق عبور المخدرات، وأيضا يضمن احتكارا فعليا لمدفوعات الرشوة الروتينية المطلوبة على الخواجز للسفر في البلاد.
مع غياب أية بوادر لتباطؤ الانهيار الاقتصادي في سوريا، فإن الأشهر المقبلة مليئة بمكونات السقوط الشاقولي. ببساطة، ليس لدى النظام أوراق يلعبها من شأنها تحسين الوضع، كما ولا تبدو إيران أو روسيا في وضع يمكّنهما من إنقاذه.
يمكن استنادا إلى ما سبق أن نفسر حرص روسيا على تسريع إعادة العلاقات مع تركيا، لأن تحقيق مثل هذا الاختراق سيغير قواعد اللعبة ويفكك عزلة الأسد. إلا أنه وعلى الرغم من الخطاب العام وما نراه على الإعلام من مشاهد تشير إلى التقارب المحتمل بين أنقرة ودمشق، فلا يوجد سبب حقيقي لنجاح عملية تطبيع جوهرية للعلاقات بين العاصمتين.
يبدو أن المسار المفزع السوري في طريقه ليمتدّ إلى أجل غير معروف، ومن المحتمل أن يتسارع أكثر. وفي حين أن العودة إلى الحرب المباشرة غير مرجحة إلى حد كبير، فإن الوضع الراهن من الصعب على الإطلاق أن يدوم على صورته الراهنة.
أمر ما يجب أن نقدّمه لسوريا.
*الترجمة والتحرير الخبري خدمة يقدمها المحرّر في منصة WHIA نقلاً عن النص الانكليزي الأصل، مع الاحتفاظ بجوهر الخبر ومراعاة دقة نقل المعلومات.