أردوغان.. هل سيحمل السلام إثر “الحبوب” إلى العالم؟
الاستماع للمقال صوتياً
|
مرح البقاعي
الشهر العاشر من الحرب الروسية على أوكرانيا الذي صادف شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الفائت 2022 كان، حُكماً، الأقسى على الرئيس فلاديمير بوتين وبلاده روسيا لجهة الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها في معاركه على الأراضي الأوكرانية.
ففي غضون ثلاثين يوماً فقط فقد الجيش الروسي ما يقارب 15 ألف مقاتل في صفوفه بين جندي ومجنّد.
يعتبر هذا الرقم من الخسائر البشرية رقماً هائلاً للجيش الروسي قياساً إلى خساراته التاريخية خلال مغامراته العسكرية في غير بقعة من العالم. فخلال عشر سنوات من حرب الاتحاد السوفييتي السابق على أفغانستان لم يشهد هذه العدد المرعب من القتلى الذين سقطوا خلال شهر واحد. ومقارنة بالخسائر الأميركية في حروبها، فالعدد أكبر بكثير من خسائر الولايات المتحدة من أفراد جيشها خلال عشرين عاماً في حربيها بالعراق وأفغانستان.
لم يكتفِ بوتين بهذا القدر من إراقة الدماء وخسائر الأرواح بين الشباب المقاتلين، بل يتم تسريب شائعات في الشارع الروسي بأن الحكومة في موسكو تعد العدة لدعوة نصف مليون رجل روسي للالتحاق بالجندية الإجبارية، وقوداً لحرب بوتين الشعواء.
وها هو بوتين، الغارق في أوهام نصر لن ينله، يقف وحيداً في صلاة العام المشرقي الجديد في كنيسة القياصرة، مناجياً الرب الخلاص من هذه الحفرة التي زجّ إلى أتونها روسيا، وأوكرانيا، ووراءهما شعوب العالم التي تعاني كل ذات صباح من الأزمات المعيشية القصوى التي أفرزتها تلك الحرب.
وفي الوقت الذي يدّعي فيه بوتين أنه يحارب حلف الناتو وليس أوكرانيا وحسب، نجده يزداد انغلاقاً في دائرة الإنكار والعنجهية الفارغة، ليعلن استمراره في هذه المقتلة الكونية؛ بل ليبدأ بتصنيع طائرات الدرونز بدون طيار، نقلاُ عن النسخة الإيرانية المسماة شاهد، بعد أن نفذت من مستودعاته، ولن تتمكن طهران من تقديم المزيد له وهي تحت الرقابة والعقوبات الدولية.
وهاهي واشنطن تعلن عن حزمة جديدة من الدعم اللوجستي الدفاعي لكييف تضمنت هذه المرة، وفي سابقة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، منظومة صواريخ باتريوت الثمينة مبلغاً وفعلاً.
قد يكون استلام كييف لمنظومة باتريوت علامة فاصلة في هذه الحرب، فمن جهة توجّه واشنطن رسالة قوية لموسكو بأن دعمها للرئيس فلوديمير زيلينسكي وجيشه لن يتراجع البتة، بل هو يتقدّم كماً ونوعاً؛ ومن جهة ثانية، يشجّع دول حلف الناتو على متابعة دعمها لكييف بمزيد من الأسلحة المتطورة. وليست دبابات برادلي بمعزل عن هذه المبادرة الأميركية السخية التي وصلت قيمتها إلى 3.75 مليار دولار أميركي، وتتضمن مختلف أنواع المعدات العالية التقنية النتي تمتلكها أميركا لمساندة الحملة الدفاعية التي يخوضها الجيش الأوكراني زوداً عن أراضيه.
في عتمة هذا النفق المريب، يعود بصيص ضوء للظهور من جديد. فإثر مبادرة السلام التي تقدّمت بها كييف بوساطة فرنسية رفضتها موسكو ووضعت شروطاً صعبة لقبولها، يتردد اليوم في الأفق دعوات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ومحاولته الوساطة بين موسكو وكييف لإيقاف هذه الحرب والدخول بمفاوضات سلام جدية وبناءة.
الوساطة التركية لم تأتِ دون دعم لافت من رأس الكنيسة في الفاتيكان، الذي أشاد بالجهود الدبلوماسية التي يبذلها أردوغان لتحقيق هدنة طويلة المدى بين الطرفين المتحاربين، ودعا البابا فرنسيس إلى متابعة الجهود لإحلال السلام.
واشنطن أدلت بدلوها ودعمت الوساطة التركية أيضاً. وأشاد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، بالمبادرة التركية في تصريح له بقوله: “إن واشنطن تقدر عالياً الدور البناء الذي لعبته تركيا في رفع منسوب آمال السلام من خلال استخدام علاقاتها مع أوكرانيا وروسيا، ومن خلال موقعها كعضو فاعل في حلف الناتو”. وتابع بأن وساطة تركيا قد ساهمت في هندسة اتفاقية الحبوب وإطلاقها ثم تجديدها، مشيراً إلى أن “هذه الاتفاقية هي آلية توفر أطناناً من الحبوب للدول الأكثر احتياجاً في العالم”.
في ليلة طلوع العام الجديد الأورثودوكسي بتقويمه المشرقي، أعلن بوتين عن وقف لإطلاق النار لمدة 36 ساعة بوساطة تركية مباشرة واتصال هاتفي جرى بين أردوغان من جهة ونظيريه، بوتين وزيلينسكي، من جهة أخرى. إلا أن الاتكاسة وقعت من جديد، وعاد الاقتتال إلى أشده بين الطرفين للأسف الشديد.
فصل المقال يكمن في مدى استيعاب بوتين لإصرار العالم الحر على تقويض أضغاث أحلامه في منع الخيار الديمقراطي المستقل والسيادي لدولة مجاورة اختارت نموذج الحياة الغربية طريقة للعيش والحكم في البلاد.
على بوتين الخروج من دائرة الإنكار للواقع السياسي واللوجستي لحربه قبل أن يكون المساهم الأول في مقتل دفعة جديدة من الشباب الذين يطوقون إلى الحياة لا إلى موت مجاني قرباناً لأوهام زعيم متهاوٍ، مازال يصرّ على المضي بمغامرته الدموية، مسلّحاً بنزيف الآخرين وعذاباتهم.