آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

“زمن الكوليرا” السوري

الاستماع للمقال صوتياً

بقلم نشمي عربي*

لم يكن اختيار هذا العنوان استجابةً لشطحةٍ من خيال، أو مسٍّ من جنون، رغم أن الكاتب الشهير “غابرييل غارسيا ماركيز” رحل عن الحياة ولم تكن المأساة السورية قد بلغت حدودها القصوى بعد، وماركيز – الكولومبي المولد الذي رحل في المكسيك أوائل 2014 – كان مرض الزهايمر قد تمكّن منه لدرجة لا تسمح له بمتابعةِ ما يجري في الطرف الآخر من العالم، رغم كل الصخب المؤلم الذي رافق الحدث السوري.

يبقى للربط بين “ماركيز” والمأساة السورية أسبابه الوجيهه، والتي عبر عنها تماماً العنوان الذي اختاره لروايته (الحب في زمن الكوليرا) والتي نشرها بالإسبانية عام 1985، ثلاثة أعوام بعيد حصوله على جائزة نوبل للآداب.

العنوان يوحي بالكثير من الصور التي تصل بمعانيها المؤلمة لحد التطابق مع الكثير من الصور الأكثر إيلاماً، والتي أتت بها المأساة السورية، خصوصاً لناحية ماخلّفته من آثار اجتماعيه لامَسَت وتلامس حياة ومعيشة غالب السوريين، موالين ومعارضين ورماديين، أولئك الذين خرجوا بسببها وتوزعوا في مهاجرهم حول العالم، أو من بقوا في الداخل.

بعيداً عن العنوان، وفي صلب الرواية، تتضح حالة التماثل هذه أكثر. فرغم أهمية ومحورية قصة الحب التي بنى عليها ماركيز روايته الرائعه إلا أن أهميتها الاستثنائية جاءت من خلال قدرته الإبداعية على رصد المتغيرات الكبرى التي طالت منطقة الكاريبي جراء الحروب الأهلية التي مرت بها، في توازٍ دقيق وسلس مع سيرورة مجريات الرواية الأساسية وأحوال شخوصها السياسية والفكرية والإجتماعيه، ما كان ليتأتى دون إمساكٍ متمكّن من كاتبٍ عبقري بكافة أدواته الفنية وببراعةٍ فائقه.

المأساة السورية التي جهدت أطراف عديدة (ولأسباب غير بريئه) لتصويرها على أنها حرب أهلية، تختلف حقيقةً في كل سماتها وتجلياتها عن الحروب الأهلية التي مرت بها منطقة الكاريبي – مسرح رواية ماركيز. ولكن الكوليرا هي الكوليرا، ولو أنها كانت أشد فتكاً وتوحشاً في مسرح الحدث السوري المؤلم.

قد تكون رواية (الحب في زمن الكوليرا) هي الأكثر شهرةً لماركيز بعد أن صنع منها المخرج البريطاني “مايك نيويل” والمنتج الأميركي “روبرت ستيندورف” فيلماً بنفس العنوان بميزانية بلغت 50 مليون دولار بحسابات عام 2007، ولكن روايته (مائة عام من العزلة) التي نشرت عام 1967 والتي صنفت على أنها من أهم الأعمال الأدبية العالمية ومن أكثر الروايات المقروءة والمترجمة للغات أخرى (ترجمت لثلاثين لغة)، كانت بلاشك هي التي خلدته كرمز مهم بل ربما الأهم على الإطلاق للواقعية السحرية أو العجائبية. ففيها تمكن ماركيز من أن يجسد أوضاع أميركا اللاتينية، بين بشاعة وقسوة استغلال المستعمرين الأوروبيين، وعسف وظلم الحكام الديكتاتوريين، وتأثير ذلك كله في أوضاع الناس المعيشية على اختلاف انتماءاتهم الطبقية والفكرية والسياسية، والتي صورها ماركيز في روايته بمنتهى الصدق والوعي مزج فيه الواقع بالخيال والحقيقة بالأسطورة.

المتغيرات الكبرى التي عاشتها منطقة الكاريبي، ورصدها ماركيز في رواياته العديدة، لم يكن هو نفسه في حصانةٍ من أن تنال منه على المستوى الشخصي. كيف يفسر إذاً، وهو الذي دافع عن قيم الإنسانية والحرية وناهَضَ الديكتاتوريات، علاقته الحميمة بديكتاتور اسمه “فيديل كاسترو” أسس لأطول الأنظمة الشمولية عمراً في عالمنا اليوم؟ تلك العلاقة التي أزعجت الإدارات الأميركية المتعاقبه لتقرر هي أيضاً (بواقعيةٍ عجائبيةٍ مكارثية) منع ماركيز من دخول الولايات المتحدة، إلى أن وصل أميركي بكاريزما “بيل كلينتون” لموقع الرئاسه واستعمل صلاحياته في رفع هذا المنع عن ماركيز ومن ثم دعوته للقاء دافء مع الزوجين كلينتون في البيت الأبيض. فكلينتون اعتبر دوماً رواية “مائة عام من العزله” الأهم على الإطلاق في أدب أميركا اللاتينية.

حتى هذه المفارقه لها مايقابلها في زمن الكوليرا السوري. كيف نفسر إذاً الدفاع المستميت لِكُتَاب حداثيين ومهمين، بعضهم (يلهث) نحو العالمية، عن نظامٍ تغول على كل ماهو حداثي وتحرري، بل على كل ماهو سوري؟ وكان (للموالين) فيه أيضاً نصيبهم من الظلم والعسف الذي تعرض له (المعارضون)، وليسوا اليوم في منأى على الإطلاق من التأثيرات الكارثية للحدث السوري الدامي.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هل تستطيع واقعية ماركيز (بكل ما أوتِيَتْهُ من عجائبية) وصف المشهد السوري مافوق العجائبي؟ وكيف؟

هل لأي واقعية مهما بلغت حدود عجائبيتها أو خيالها أن تتمكن بصدق وشفافية من رصد المتغيرات الحقيقية التي واكبت الحدث السوري المؤلم، واعترت سلوك العديد من السوريين، الموالين والمعارضين، وبغض النظر عن موقفهم السياسي وتوجههم الفكري؟

هل ستستطيع تفسير كيف تحول العديد من رموز اليسار ليصبحوا موظفين لدى مؤسسات يديرها ويتحكم بها فكر اليمين وأقصى اليمين؟ وكيف يَتَلَوَّن اليمين ليصبح يساراً إذا دَعَت الضرورة؟ وكيف ضاع السوريون بين هذه التَقَلُّبات والتَلَوُّناتْ؟

هل كان بوسع ماركيز الذي وصل مذهب الواقعية الغرائبية عنده إلى غايته، أن يصور مدى التحولات التي طرأت على نفوس بعض من يدُّعون تمثيل السوريين وحمل همومهم، وكيف تحولوا (في النظام والمعارضات) إلى وكلاء ومُسَوِّقين لمصالح وأهداف كل المنخرطين في الشأن السوري، باستثناء السوريين أنفسهم؟

وأولاً، وقبل كل شيء، هل من واقعية روائية أوغيرها قادرة على تصوير مدى الإختلاف الذي طرأ على سلوك العديد من السوريين العاديين في المقلبين الموالي والمعارض؟ وكيف أصبحت المادة هي المحور الأهم لتوجهاتهم السياسية والفكرية إلى أن غدت ناظِماً حتى للعلاقات الإنسانية فيما بينهم، وغدت الحوالات المالية لا أية قيمة إنسانيه أخرى هي المعيار الأهم الذي يحكم هذه العلاقات، ساهمت في ذلك ظروف اقتصادية مأساوية لاتفرِّق في قسوتها بين معارضٍ أو موالٍ، ومابينهما …

نهايةً.. هل هناك من أعراض للكوليرا أشد وضوحاً وفداحةً وفتكاً؟

*كاتب سوري أميركي مقيم في العاصمة واشنطن.

زر الذهاب إلى الأعلى