اليوم التالي لـ “النصفية” الأميركية
الاستماع للمقال صوتياً
|
قراء سياسية بقلم مرح البقاعي
نُشرت بداية في مركز بحوث “أبعاد” في لندن
تقديم
تحظى الانتخابات الرئاسية الأميركية بقدر كبير من الأهمية والمتابعة في جميع أنحاء العالم، وهي تقام كل أربع سنوات لانتخاب رئيس جديد. بيد أن ما يحدث في الانتخابات النصفية أو انتخابات منتصف المدة – والتي يُطلق عليها هذا الاسم لأنها تحدث بعد عامين تقريباً من بدء ولاية الرئيس – يمكن أن يكون له تأثير كبير على الاتجاه الذي تسير نحوه البلاد.
يتركز معظم الاهتمام بالانتخابات النصفية على الكونغرس بمجلسيه: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. بالنسبة لمجلس النواب، يتم انتخاب أعضائه لفترة مدتها عامان، ولذلك يتم تحديد شاغلي جميع المقاعد الـ 435 خلال الانتخابات النصفية. أما أعضاء مجلس الشيوخ، فيتم انتخابهم لفترة مدتها ست سنوات. وفي أي انتخابات نصفية، سيكون ثلث المقاعد البالغ عددها مئة متاحا للمنافسة الانتخابية.
في نهاية الأمر، من يسيطر على مجلس النواب أو مجلس الشيوخ يسيطر حكماً على البرنامج السياسي الذي يدعمه الحزب الفائز بالأغلبية، ويحقق أجندته، سواء على مستوى السياسات الداخلية، أم في ما يتعلق بالسياسات الخاردية وعلاقة الولايات المتحدة مع دول العالم.
كما أن حزب الأغلبية يحدد من الذي يقود اللجان المتخصصة في الكونغرس، وأن قدرة الرئيس الأميركي على إنجاز برنامجه لها علاقة قوية بما إذا كان حزبه مسيطراً على الكونغرس بمجلسيه، وبالتالي على قرار اللجان.
ملابسات “موجة الجمهوريين” الحمراء
مع إغلاق معظم صناديق الإقتراع في معظم الولايات الأميركية، أيقن الديمقراطيون بأنهم سيفقدون السيطرة على مجلس النواب القادم، لكنهم قد يحتفظون بأغلبية ضئيلة للغاية في مجلس الشيوخ.
إلا أن الفارق الضئيل في عدد المقاعد التي استحوذ عليها كلا الحزبان تتنافى مع وعود الجمهوريين التي أطلقوها، محفّزين أنصارهم قبيل الانتخابات، مشدّدين في حينها على أن “موجة حمراء” ستجتاح صناديق الاقتراع، وأن الحزب الجمهوري سيحصد أغلبية مريحة في المجلسين ليتمكّن من فرض رؤيته السياسية في الجناح “التشريعي” للولايات المتحدة على “التنفيذي” في البيت الأبيض حيث الرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي.
إلا أن هذا الأمر لم يحدث، وتمكّن الجمهوريون بصعوبة من تأكيد أغلبيتهم في الكونغرس بفارق جد ضئيل مع منافسيهم الديمقراطيين، بينما من المتوقع أن يحتفظ حزب الرئيس بايدن بأغلبية مجلس الشيوخ (وهي أغلبية ضئيلة أيضاً على غرار أغلبية الجمهوريين في الكونغرس).
من هذا المنطلق نبّه النائب الجمهوري، كيفين ماكارثي، الذي سيكون المتحدث الرسمي باسم الكونغرس حال خروج المتحدثة الحالية، نانسي بيلوسي، من المنصب، نبّه ماكارثي أعضاء حزبه بأنه نظراً لنتيجة الانتخابات التي خالفت كل استطلاعات الرأي وتوقعات الحزب، فإنه سيكون على الجمهوريين محاولة العمل بشكل تشاركي مع نظرائهم الديمقراطيين، لأنهم لا يمتلكون الأصوات اللازمة الضاغطة ليفرضوا، بشكل مطلق ودونما معوقات، برامجهم وسيطرتهم على دفّة القرار.
إلا أن الجمهوريين من جناح اليمين المتشدد، وهم معظمهم من مناصري الرئيس الأسبق دونالد ترامب، لا يوافقون ماكارثي وغيره من الجمهوريين المعتدلين الرأي. ويريدون أن يستمروا في الدفع بأفكارهم وبرامجهم على الرغم من الدليل القاطع الذي قوّض طموحهم إثر الانتخابات، والمتمثل في أن ظهور ترامب في المشهد الانتخابي كان عاملاً سلبياً أدى إلى خسارات متلاحقة لمعظم المرشحين الذين ارتبطوا خلال حملتهم بدعم مباشر من الرئيس ترامب، وكل من قاموا بدعوته إلى منصاتهم الانتخابية ليلقي خطاباته الرنانة التي مازالت تحظى بشعبية بين صفوف اليمين المتشدد. العكس كان صحيحاً نظراً لخسارة من أيّدهم ترامب في الانتخابات النصفية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجحت سارة هوكابي، وهي الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض في عهد ترامب، وكانت من أشد المؤيدين وأقرب المقربين له في فترة حكمه، نجحت بالحصول على منصب حاكم ولاية أركنسا، وهو منصب لم تصله امرأة من قبل. أما الاستراتيجية التي اتبعتها هوكابي فهي الامتناع تماماً عن دعوة ترامب إلى منصة حملتها الانتخابية، بل عمدت إلى فك ارتباطها بأفكاره وتوجهاته السياسية كاملة، ما ساعدها على الفوز بأصوات شريحة واسعة من الناخبين الشباب ولا سيما النساء في الولاية.
مثال آخر نسوقه من ولاية فلوريدا حيث نجح الحاكم الجمهوري، دان ديسانتيس، بالفوز مجدداً وبيسر شديد بمقعد حاكم الولاية الذي كان يشغله. وديسانتيس معروف بانتقاده الشديد للرئيس ترامب، حتى أن العلاقات بينهما شبه مقطوعة. وحال فوز ديسانتس (الذي من المتوقع أن يكون أحد المرشحين الرئاسيين من الحزب الجمهوري لخوض انتخابات الرئاسة في العام 2024)، أسرع مستشارو ترامب غلى تقديم نصيحة لرئيسهم بعدم إعلان ترشحه في الوقت الراهن لانتخابات 2024! وقد كان ترامب عازماً على إعلان ترشحه رسمياً حال انتهاء الاقتراع النصفي.
من هذا المنطلق نتساءل، ما هي الأسباب الرئيسة في عدم توصّل الجمهوريين إلى تحقيق طموحهم في اجتياح صناديق الاقتراع، وهل أداء الديمقراطيين كان الحكم في الانتخابات، أم أن الشأن الداخلي والأمور الاجتماعية التي يهتم بها الديمقراطيون عادة، وفي مقدمتها حقوق المرأة بخاصة والإنسان بعامة، هي من رجحت الكفة، ولاسيما في عناوين مثل حق الإجهاض وحقوق المثليين والضمان الصحي وغيرها من أولويات الحياة اليومية الأميركية؟
وماذا عن حالة التضخم وارتفاع الأسعار ومطبات الاقتصاد التي يعاني منها المواطن الأميركي في عهد الديمقراطيين، أليس كان مفترضاً أن ترجح كفة الجمهوريين في حصد الأصوات كونهم أكثر حنكة وقدرة على تعديل كفة الاقتصاد حين تميل وتأمين الوظائف وخفض الأسعار والضرائب معاً، وهي غايات مهمة وحيوية للمواطن الأميركي؟
وهل كان ترامب فعلاً وراء خسائر من أيّدهم من مرشحي الحزب الجمهوري ما جعل الحزب برمته محبطاً بسبب النتيجة، وعليه هل سيتساهل الحزب مع ترامب في رغبته الترشح للرئاسة مجدداً في العام 2024؟
في استطلاع للرأي أجرته وكالة رويترز ونشرته مؤسسة إيديسون للبحوث، أعرب حوالي 60% من الجمهوريين عن اعتقادهم بأن ترامب يجب أن يترشح مرة أخرى في العام 2024، بينما قال 36% إنه لا ينبغي أن يترشح.
فهل غدا ترامب عبئاً على الحزب الجمهوري، وهو يمضي الآن معظم وقته في الدفاع عن نفسه من التهمة التي لحقت به، حتى من أقرب المقربين له مثل نائبه الأسبق مايك بنس، الذي صرّح أن ترامب كان له تأثير غير إيجابي على حزبه وأن عليه ألا يترشح للرئاسة من جديد؟ أم أن مشهد الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير من العام 2021 إثر خسارة ترامب الانتخابات أمام الرئيس بايدن، مازال مسيطراً على ذهنية وقرار الناخب الأميركي، كون هذا الحدث كان جللاً وتهديداً سافراً ومباشراً للتقاليد والعراقة الديمقراطية التي يمثلها مبنى الكابيتول (مقر مجلس النواب) الذي هاجمه متطرفو اليمين في ذلك اليوم، واتُهم ترامب بأنه كان وراء التشجيع على هذا الاعتداء الخطير وغير المسبوق في التاريخ الأميركي على صرح يمثل صوت الشعب الأميركي الذي يحمله نواب المجلس؟
الديمقراطيون وباراك أوباما في مشهد 2022
رئيس أسبق كان حاضراً وبقوة في مشهد الانتخابات النصفية أيضاً، لكن في الضفة الأخرى الديمقراطية، وهو الرئيس باراك أوباما، الذي تربطه بالرئيس الحالي بايدن علاقة طويلة في العمل الحكومي والحزب، حيث كان بايدن نائباً لأوباما خلال 8 سنوات في البيت الأبيض بين الأعوام 2008 -2016 قبل أن يصل ترامب ويحكم حتى العام 2020.
لجأ أوباما إلى وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة لدعم مرشحي حزبه الديمقراطي، وكذا ظهر بشكل متتابع في حملات المرشحين الديمقراطيين الانتخابية، وشاركته زوجته، ميشيل أوباما، أيضاً في دعم المرشحين، والزوجان يتمتعان بشعبية كبيرة عند أغلبية الطلاب الجامعيين والنخب المثقفة والملونين الذي ساهموا بأصواتهم في منع رجاحة كفة الحزب الجمهوري المنافس.
رسم أوباما خارطة طريق لأعضاء حزبه مفادها أن عليهم التركيز على القضايا وليس على الأشخاص، وعليهم أن ييكروا خططاً اجتماعية واقتصادية وصحية، لا أن ينتقدوا تصرفات المنافسين من المرشحين، وألا يركزوا على ترامب وأنصاره.
وفي إحدى مدوناته الصوتية (podcast) حذّر من عن خطأ استراتيجي يمكن أن يرتكبه أبناء حزبه الديمقراطي في الانتخابات النصفية قائلاً: “إننا نضيع حيزاً هائلاً من الوقت والطاقة والموارد للإشارة إلى آخر ما قال دونالد ترامب، أو كيف تصرف بوقاحة، أو حتى في رصد تصريحات بعض المرشحين الجمهوريين”. وتابع: “هذا الأمر ليس ما يشغل أذهان معظم الناخبين لأنه يتجاوز مصالحهم الأساسية ولا يركز عليها كما ينبغي، بل لا يجيب على أسئلتهم الملحة: هل سأتمكن من دفع الإيجار في نهاية الشهر؟ ما هو سعر الغاز اليوم لسيارتي؟ كيف أتعامل مع ظروف الرعاية لأطفالي”؟
ونصح أوباما – الذي مازال بإمكانه أن يحشد بقوة نظراً شعبيته الكبيرة التي مازالت سائدة في الشارع الأميركي- بأن على الديمقراطيين أن يلتفوا حول فكرة نجاح او ايدن خلال سنتين من رئاسته، وقال إن “إدارة بايدن أنجزت الكثير.. لدينا مشاريع بنى تحتية عظيمة ستساعد في إعادة بناء أميركا وخلق فرص عمل في جميع أنحاء البلاد. ولدينا قانون لمكافحة التضخم يخفض أسعار الأدوية ويجعل من الرعاية الصحية ميسورة التكلفة”.
وبالفعل ساهمت خارطة الطريق تلك التي رسمها أوباما لمرشحي حزبه في تحويل خطابهم من الشخصي إلى العام، ومن توجيه اللوم والاتهامات لترامب وأنصاره إلى التركيز على إنجازات بايدن وحزبه والمجلسين، فيما يعزز حقوق المواطن الأميركي واحتياجاته المعيشية التي عادة ما تحدد بوصلة الناخب وأين سيتجه صوته.
اليوم التالي للانتخابات النصفية
اليوم وقد بدأت الصورة تتضح في واشنطن فرئيس ديمقراطي في البيت الأبيض، ومجلس نواب بأغلبية جمهورية، بينما مجلس الشيوخ يبقى بزعامة ديمقراطية (حتى تاريخ كتابة هذه السطور)، نستطيع القول أن الرابح الأكبر في هذه الانتخابات الاستثنائية ضمن ظروف الاستقطاب الشديد الذي اعتراها بين الحزبين وأنصارهما، الرابح الأكبر هو التقليد السياسي الأميركي الذي يقوم على مبدأ Checks $ Balances، أي قيّم ثم عدّل، وهو عرف سياسي عريق يحقق التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كلما اعتراه عور.
السياسة الخارجية وحرب روسيا على أوكرانيا
هكذا يعود التوازن اليوم إلى أروقة القرار في واشنطن، وعلى مستويي السياسة الداخلية والخارجية في آن.
وفي دائرة السياسات الخارجية ستكون اللجان في مجلس النواب تحت تأثير الأغلبية الجمهورية، وهذا سيكون له دور كبير في التصويت على القرارات وصرف الميزانية لدعمها.
فالخلاف الواضح بين الحزبين منذ فترة، والمتعلق بقضية استراتيجية ملحة وهي دعم أوكرانيا في دفاعها عن سيادتها ضد الاعتداء الروسي الذي لا مبرر له، أن الجمهوريين لا يريدون أن يكون حجم الدعم التسليحي واللوجستي للرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بلا حدود. فمعظم الجمهوريين لا يوافقون على استمرار الرئيس بايدن في منح ” شيك على بياض” لكييف.
وبالرغم من أن تمكين أوكرانيا ودعمها في الدفاع عن نفسها هي قضية يتفق عليها الحزبان، إلا أن مستوى الدعم وحجمه وحدوده، سيكون للجمهوريين القول الفصل فيه.
ونحن لاحظنا توجهاً طرأ على تصريحات المقربين من الرئيس بايدن خلال حضوره قمة العشرين في جزيرة بالي الأندونيسية مؤخراً، حيث صرّح مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، من هناك أن على كييف أن تجد الوسائل المواتية للدخول في مفاوضات مع موسكو وإنهاء الحرب.
ويبدو أن هذا التصريح يأتي بمثابة خطوة استباقية لتدارك ما سيخلص إليه مجلس النواب الجديد في زعامته الجديدة التي من المرجح أنها ستذهب إلى كيفين ماكارثي خليفةً لنانسي بيلوسي.
ومن الجدير بالذكر أيضاُ أن الديمقراطيين لا يشعرون بالنشوة وحسب نتيجة هذه الانتخابات التي كانوا يتوقعون أن تكون أسوء بكثير بالنسبة لهم، بل هم يشعرون اليوم باسترخاء إضافي لما يمكن أن تؤول إليه الانتخابات الرئاسية في العام 2024، حيث يعتقدون أن المؤشرات السياسية التي ظهرت بعيد هذه الانتخابات تنبئ بإمكانية كبيرة لاستمرارهم في البيت الأبيض لمدة أربعة أعوام جديدة، كما أنها تشكّل عاملاً دافعاً ومحفّزاً للرئيس بايدن لترشيح نفسه من جديد في العام 2024 رغم عائق تقدمه في السن، لأنه سيستند إلى المقولة التي تفيد بأن هذه الانتخابات جاءت بمثابة استفتاء لصالحه وصالح حزبه، ودليلاً شعبياً بصوت الناخب الأميركي عن رغبته في أن يرى الرئيس بايدن مجدداً في البيت الأبيض بعد إنهاء ولايته الأولى.
لكن، الانتخابات الأميركية دائماً حبلى بكل الاحتمالات، وكما جاءت هذه المرة معاكسة لكل استطلاعات الرأي التي رجحت اكتساح المد الأحمر الجمهوري للمشهد السياسي، سيمكنها أن تتحوّل بصورة دراماتيكية في العام 2024 التي ستشهد منافسة شرسة على المكتب البيضاوي، وبخاصة إذا فاز ترامب بترشيح حزبه لمنافسة المرشح الرئاسي الديمقراطي المحتمل (الذي سيكون في هذه الحال بايدن بلا منازع).