إيران.. وحجابها السياسي
الاستماع للمقال صوتياً
|
بسام أبوطوق
في خطوة داعمة وواضحة للحركة النسوية في بلادها، ظهرت لاعبة التسلق الإيرانية إلناز ركابي بدون حجاب في البطولة الدولية للتسلق في كوريا الجنوبية، وبعدها اختفت، لتظهر في مطار طهران لتصرح باعتذارها عن وقوع الحجاب سهواً لدى انطلاقها في لعبة التسلق! ويبدو أن إداريين في الفريق الإيراني – هل نقول رجال الأمن؟ – قد صادروا جواز سفرها وهاتفها المحمول ثم اختطفوها وأجبروها على العودة والإدلاء بهذا التصريح التهريجي.
التعامل المفرط في قسوته مع حادثة نسوية عادية بهذه الجدية والحدة، يعيدنا إلى حادثة مقتل مهسا أميني على أيدي رجال شرطة الأخلاق التي فجرت الاحتجاجات والمظاهرات ضد فرض الحجاب، وتالياً ضد تعسف السلطة الحاكمة.
بالمقارنة، فمقتل مهسا أميني لم يكن خطأ غير مقصود من قبل عناصر شرطة أخلاق يمارسون مهام وظيفتهم بكل إيمانية والتزام، والأمر يتعدى سلوك أفراد الشرطة البسيطين إلى ما هو نهج نظام مستبد وغائية سلطة متحكمة، تجعل من قضايا فقهية تتحمل المحاجة والاجتهاد أسلوب قمع وقهرلا استمرارية وديمومة بدونهما، ولو كانت قضية الحجاب وفرضها على المرأة مسلمة دينية لما احتاجت إلى شرطة أمن وأخلاق ولتكفلت بهذه المهمة مؤسسات الدعوة والتوجيه الديني، تواجه الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان.
فرض الحجاب في التحليل الأخير هو مسألة سياسية بامتياز ومثله تكفير الرأي الآخر وشيطنة الدعوة لحقوق الانسان ووحدانية المعتقد وولاية الفقيه إلخ..
فالنظام الإيراني المستبد يعي جيداً أن ديمومة سيطرته هي معاندة لمسار التاريخ والوعي البشري باتجاه الحرية والانعتاق، ويدرك أن إشراقة أي انفتاح للحريات الشخصية والمجتمعية تعني بداية انهياره وتلاشي معنى وجوده، فماذا يبقى للنظام إذا أقر بوجود اجتهادات في مسألة الحجاب مثلاً وحل الشرطة الدينية؟ هل ستبقى له ولاية على الإيرانيين وحتى على أتباعه ومواليه في العراق ولبنان؟
الثورات المتعددة للشعب الإيراني والتي تخبو تحت القمع المفرط ثم تنهض على مدى العقدين الماضيين لم تكن ثورات حرية نساء ونزع حجاب فهذه مجرد عناوين وأمثولات.
ففي عام 2009 عمت شوارع إيران المظاهرات الشعبية احتجاجاً على تزوير الانتخابات الرئاسية وإعلان أحمدي نجاد فائزا، بينما اشارت كل الدلائل على تفوق مير موسوي ومهدي كروبي من زعماء التيار الإصلاحي. هذه الثورة التي سميت خضراء تم قمعها بعنف على أيدي الشرطة وقوات الباسيج ووضع موسوي تحت الإقامة الجبرية ومازال الى يومنا هذا، فحتى هامش الحرية الضيق بين محافظي النظام وإصلاحيوه قد تلاشى.
هذه الثورة التي بشرت بثورات الربيع العربي لم تكن ثورة ضد تزوير الانتخابات فحسب، بل هي شرارة أشعلت فتيل الانتفاض على القهر والتسلط والفساد والاستئثار بالسلطة، ولعل نجاح النظام الحاكم في الحل القمعي قد ألهم دول الربيع العربي باستعمال هذا الحل مع احتجاجات شبيهة.
بدأت احتجاجات عام 2019 ضد زيادة سعر البنزين، وهي أيضاً شرارة فجرت بركان مخمد من القمع والاستبداد ووطأة الشرطة والباسيج ومن فوقهم سلطة رجال الدين وولاية الفقيه. الاحتجاجات التي عمت مختلف أرجاء إيران انتهت بالقمع الشديد والمفرط في خشونته حيث وصل عدد القتلى من المتظاهرين إلى 1000 قتيل إضافة إلى جرح عشرات الآلاف واعتقال ما يزيد عن سبعة آلاف قتيل ولم تتوقف الاحتجاجات الشعبية يوماً ولم يتأخر عنها القمع المفرط للسلطة وأزلامها وقد اعتمدته نهجاً وحيدا.
واليوم مع دخول الحركة الاحتجاجية في إيران أسبوعها الرابع يبدو أن جهود النظام لإخمادها لها تأثير معاكس، حيث أدت إلى مزيد من إثارة الجماهير واجتذاب فئات جديدة من طلاب المدارس والجامعات وتجار البازار بالإضافة الى فئات مهمة من الطبقة العاملة، والأهم من ذلك هو بداية سلسلة من الإضرابات في قطاع النفط والذي يمثل قلب الاقتصاد الإيراني.
لدى الأنظمة الدكتاتورية عموماً نهج ثابت في تقييم الحركات الاحتجاجية، وهي الادعاء بأن وراءها مؤامرة وتمويل خارجي، وأن كل مبررات الاحتجاج من فساد للسلطة، او مصادرة للحريات، أو فشل اقتصادي، او إداري، أو تبديد للثروات على مغامرات عسكرية، هي سيناريوهات مركبة في محافل شيطانية من خارج البلاد معادية لمجد الأمة وتطلعاتها القومية إلخ.. ولكن هذه الادعاءات فشلت أمام عمومية الاحتجاج الذي انتشر كالنار في الهشيم على مساحة البلاد وانخرطت فيه كافة الأقاليم والقوميات والعرقيات على تعددها. وكما يقول مثلنا العربي الشعبي: هي ليست رمانة، بل قلوب مليانة!
ما يحصل هو انعكاس لمأزق النظام الحالي ووصوله الى حالة الانسداد، فهو أكبر من قضية حجاب أو أي قضايا مطلبية أخرى، وما يحصل هو إشعار بالفصل لكل من يعتقد أن الاستبداد يمكن أن ينجو ويستديم.