مقال الرأي

ما لا تفهمه الثقافة الغربية في منطق بوتين أبعد بكثير من دومباس ولوهانسك

كتب سمير التقي

الاستماع للمقال صوتياً

 

فرق جوهري بين منطق الفهم الاستراتيجي الغربي، وبين منطق وثقافة ومفاهيم القيادة الروسية الحالية. فهذا المنطق الغربي الذي تأسس عبر القرون لم يستطيع فهم العقل الداخلي لخصم عدمي أعمى.

يراهن بوتين الآن على العناد التي تتلخص في تقاليدنا في سيرة عنترة بن الشداد بلعبة عض الأصابع، ليقف الاستراتيجيون الغربيون حيارى أمامه. بالنسبة للعقل الغربي تبدو الأيديولوجية عبثية لأنها تضع أهدافا صفرية من مستوى “إما نحن وإما هم!” بغض النظر عن حماقة التكاليف وعبثية النتائج. فالمنطق الغربي منطق أمبريالي تجاري بحت، مبني على حساب مصالح التجارة والثروة الخ… سوى ذلك فإنه ينسحب وينفض يديه.

لكن، ماذا لو كان العناد الأيديولوجي سياسة، والحماقة سلاحاً يقوم على مبدأ ان العنيد هو الرابح مهما خسر، خاصة إذا كنت تخوض حربا هدفها إخضاع جيرانك ومحيطك الإقليمي.

فالمنطق الذي يعمل به بوتين أنه باق في حرب اهتراء واستنزاف حتى يمل الغرب، مهما كانت الخسائر وهزلت الأرباح. ومن هذا المنطق يمكن أن ندرك الكثير من انسجام المنطق الداخلي لبوتين. ولكنه بالطبع منطق محكوم بالغرق من بؤس إلى بؤس.

هذه الاستراتيجية الروسية ليست جديدة للأسف، فكثيرا ما لأي إيفان هذا المصير. فمنذ صعودها الامبراطوري، لطالما حاوت روسيا تجاوز قصور الموارد الحضارية والهوة الشاسعة في مستويات تطور المجتمع السكان وتخلف إمكانياتها التقنية تجاه الغرب، بتعظيم وطغيان دور الدولة ليسحق المجتمع ويسعى لتحقيق قفزة تنموية كبرى، على حساب الإبداع الفردي وحرية الاكاديميا والأعمال وعن طريق رفع العصبية القومية لدرجة التقديس، وسرعان ما يكرس قفزته التنموية نحو الحروب وغزو محيطه ونحو القتل بحجة الخوف والدفاع، على أمل تحسين موقعه الاستراتيجي إلى ان يصل… لحد الإفلاس. وبذلك، كثيرا ما ربحت روسيا حروبا، لكنها غالبا ما خسرت السلام. وكانت تلك سيرتها، ما بين كاترين ونهاية القيصرية، وسيرتها ما بين ستالين إلى غورباتشوف، والآن ها هو بوتين يقع في ذات الفخ.

في بداية الأمر اعتقد الاستراتيجيون الغربيون أن الهدف من التدخل العسكري الروسي هو الإطاحة بالحكومة الأوكرانية لاستبدالها بنظام موال لروسيا ويدور في فلكها، وتصفية القوات المسلحة الأوكرانية، ناهيك عن الهدف الدائم لروسيا لتفكيك التماسك الداخلي لحلف شمال الأطلسي.

مقابل فشل هذه الأهداف الروسية المفترضة، يفشل هذا التحليل الغربي في فهم المنطق الداخلي لاستمرار روسيا في الحرب. وإذ تركز موسكو الآن على الهجوم علي محاور محددة في الجنوب والشرق بدل تشتيت قواها، يبقى هذا التحليل بعيدا عن تقديم منظور لمجمل اللوحة الاستراتيجية المحيطة بالصراع والتي تبرر من المنطق الروسي التكاليف الباهظة للغزو من جهة وصولا للهدف النهائي البعيد للعبة الروسية. لكن ها هو الكرملين يصرح البارحة أن روسيا لن تتوقف حتى تستسلم أوكرانيا. ليعيد طرح السؤال كالذي يريد بوتين؟ فبعد كل ما جرى إن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أكبر.

لا أقصد بأي حال أن نرمي السلاح أمام بوتين والتنازل له، بل على العكس. فالسؤال يبقى كيف نفهم بوتين وكيف يمكن ان نسوقه نحو الفشل في حرب الاستنزاف دون ان نسمح له بتحقيق أهدافه.

الموضوع أبعد بكثير من مجرد تغيير النظام في كييف من خلال “صدمة الرعب” أو “الهجوم الخاطف” أو “الضربات الجراحية”. وكلها مفاهيم ابتدعها الباحثون الغربيون من أجل خلق تصور حول ما يجري.

تشير الحقائق على الأرض بوضوح إلى أن ما تسعى موسكو اليه هو حرب استنزاف شرسة ومدمرة هدفها إعدام أوكرانيا والتفكيك النهائي لها كدولة وأمة فاعلة، حتى لو استغرق المسعى شهورا أو حتى سنوات وحتى لو تدهور وضع المواطن الروسي إلى حضيض تسعينات القرن الماضي.

لا يوجد تفسير آخر لذلك السعي المنهجي الاستراتيجي لطمس البنية التحتية في أوكرانيا، والقضاء على الصناعة والزراعة، وتدمير المواقع الثقافية، ودفع الجموع الأوكرانية للهجرة القسرية والنزوح الجماعي. هذا في وقت يستمر فيه التضليل الثقافي والسياسي الذي يستهدف إنكار مجرد وجود الأمة والدولة الأوكرانية من أصلها. هذا ما تفيد به طريقة الضربات العسكرية والغارات الجوية وضربات المدفعية والمشاة في محيط واسع من المواقع المدنية والثقافةي والمدنية.

هذه الأعمال سمة مقصودة وليست أخطاء للعمل العسكري الروسي. وبالمقابل فإن إطلاق الصواريخ الفائقة للصوت لتدمير المباني بطريقة بشعة، هي تدابير مصممة بعناية بهدف إرهاب تطفيش الشعب الأوكراني وتذكير الغرب بالمدى الذي سيكون بوتين مستعدا للذهاب اليه من أجل تحقيق أهدافه في التهام جسد الأمة الأوكرانية.

يقدم التاريخ شواهد كثيرة تنير لنا فهم ثقافة واستراتيجية بوتين في إعدام الخصم ومحيه من الوجود.

ففي تاريخ روما القديمة وبعد عدة معارك طاحنة، تحقق النصر النهائي لروما بطمس كامل لقرطاج بعد حصار دموي سويت فيه قرطاج بالأرض، وأبيد أغلب سكانها، وبيع الناجون عبيداً، ليتم ضم أراضيها إلى سلطة روما. كما استخدم جنكيزخان ذات العقيدة، حيث قامت قواته بمسح حرفي وتام، لمملكة خوارزم القديمة في آسيا الوسطى، وحولتها إلى أنقاض، وتمت تصفية السكان وتدمير المعالم الثقافية، بحيث ان غالبية المؤرخين المرموقين الذين أعقبوا هذه المذبحة، لم يسمعوا حتى بوجود مملكة خوارزم. وكذا حاول هتلر في وارسو، ثم ستالين في أوكرانيا. فبالنسبة لتاريخ الطغاة، لم يخترع بوتين الكثير، بل طبق مبدأ مكيافللي القائل بأنه من الأفضل أن يخافك الناس من أن يحبوك. وبذلك، فكما أسلفنا، رغم ما قد تبدو عليه استراتيجية بوتين من مغامرة، إلا انها ليست بالضرورة متناقضة في منطقها الداخلي. وإذ يعتبر بوتين ابتعاد أوكرانيا عن روسيا جريمة لا تغتفر، يبدو أن الأهم بالنسبة له هو أولا، خلق مزاج من الرعب والرهبة تجاه ما يمكن أن تفعله روسيا، وثانيا زعزعة الثقة بموثوقية التحالف الغربي.

وبالنظر إلي توفر الموارد لدى روسيا وبالنظر لطبيعة الديناميات السياسية الداخلية فيها، ورغم الانتكاسات التكتيكية، والأداء اللوجستي الضعيف يفترض بنا أن لا نتعالى على منطق بوتين. الاستراتيجية الروسية تعتمد على الاستنزاف والتدمير الحضاري النهائي. فبعد إعادة توجيه جهوده نحو الشرق والساحل الجنوبي ها هو بوتين يركز على المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، خاصة إذا كان يتطلع نحو تقسيم أو ضم دونباس في الاتحاد الروسي.

بدون هذه الأراضي، يأمل بوتين أن تتحول أوكرانيا إلي دويلة فاشلة لا يمكن الدفاع عنها. وفي حين يجري نقاش في موسكو حول جدوى الاستيلاء على غرب أوكرانيا واحتلالها، بما يحمله ذلك من مخاطر نتيجة العداء المستحكم لروسيا في هذه المناطق بشكل خاص، والتي ربما تتحول بالتالي لبحر من الدماء.

وفي ظل هذه الظروف قد يأمل بوتين أن أن تبتلع بولندا غاليسيا وتبتلع المجر ترانسكارباثيا، الأمر الذي من شأنه ان يزرع الشقاق داخل كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

واستنادا إلى هذا المفهوم الناشز، يأمل بوتين إعادة تشكيل أجزاء أوكرانيا الخاضعة لسيطرته على غرار نظام بيلاروسيا.

على المدى الأبعد قد يطمح بوتين للاستفادة من مزايا المناطق الأوكرانية المحتلة في الصناعة والزراعة، ووفرة مواردها الطبيعية، في مجال الخدمات اللوجستية للتجارة ولعله عندها، يقدم أوكرانيا جائزة مغرية للصين، خاصة اذا اخذنا بعين الاعتبار أن الصين تمول أصلا عبر أكبر شركاتها، مجمعا ضخما للمعادن النادرة في بيلاروسيا.

خلال العقدين الماضيين، عدل بوتين استراتيجية روسيا تجاه أوكرانيا ليجعلها متعددة الاستخدامات ومرنة بما يسمح بالتكيف مع الظروف المتغيرة وانجز ذلك بشكل يدعو للإعجاب. تحقق كل ذلك قبل أن ينزلق بوتين لورطة الحرب المفتوحة حيث كان قبلها يربح كل يوم بالنقاط، ويوجه اللكمات لغرب مسترخ ومنقسم في حين تضطرب الولايات المتحدة في انتاج استراتيجيات لمواجهته.

فالحرب في نهاية الأمر مقامرة خطيرة وبمجرد إطلاق الطلقات الأولى، لا توجد طريقة لمعرفة كيف ستسير الأمور ولا تبقى خطة إلا وتتغير.

والآن يحاول بوتين تصحيح زلته بنهجه التدريجي الذي يراهن على اهتراء الخصم. وبالرغم من أن هذه الاستراتيجية أصبحت تعكس علامات اليأس، ولكنها توضح أيضا أن الكرملين يعتقد أن المخاطر والتكاليف، تستحق التحمل، لأن ما هو على المحك هو مسألة حيوية بالنسبة له.

في نهاية الأمر، يكمن الرهان الروسي الجوهري على تفكك الغرب. وما لم يتم ذلك لن يضمن تحقيق النتائج المتوخاة بنجاح.

وحتى لو تمكن بوتين من الانتصار في بعض المعارك في أوكرانيا، وهذا ما كان يبدو منطقيا لزول وهلة، لكن هذا لا يعني أن الصراع سوف يهدأ ولو للحظة!

فمن شأن انتصار روسيا أن يشجعها على تحدي الوضع الراهن في بؤر التوتر الأخرى المثيرة للجدل مثل دول البلطيق أو مولدوفا أو بولندا، أوسوريا في محاولة لتحفيز أجندتها وقلب ميزان القوى غير المواتي الذي نشأ عن حقبة ما بعد الحرب الباردة.

تدرك ذلك القوى البحرية الأطلسية – وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – ولهذا تستثمر قدرا كبيرا من الموارد من أجل التأكد من أن روسيا ستنزف في أوكرانيا حتى تتراجع. وبالنسبة لهما، يتمثل الهدف الاستراتيجي في تقويض النفوذ الجيوسياسي لروسيا في أوربا. وبطريقة أو بأخرى، لن يهدأ العداء الذي زرعه بوتين في أوربا بمجرد اطلاق عملية تفاوضية وذلك بالنظر للمصالح المتناقضة بعمق.

ورغم أن التقاليد الفكرية للدبلوماسية الغربية تشير إلى ان السبيل الوحيد لمنع تفاقم الصراع هو التوصل إلى تسوية تفاوضية، فإن ذلك لن يفتح الباب نحو سلام أوربي مستدام. لكن على الأقل سيوفر، اطارا تفاوضيا لإدارة الصراع طويل الأمد في أوروبا.

هذا المنطق التفاوضي لا يبدو ذو أثر في استراتيجية القضم والتدمير الروسية حتى الآن. فالحل الذي تنتجه العقول الدبلوماسية الغربية الباردة لا ينسجم مع حرارة العقول الحامية في موسكو إلى الآن.

لكن إدراك حقيقة دوافع روسيا ومخاطر مقاربتها تجعلنا أقدر على التنبؤ بخطواتها كي لا تستمرئ هذا المنطق وكي نوفر أكبر ما يمكن من الفرص لانتصار الشعب الأوكراني. وفي نهاية الأمر ورغم ان أوكرانيا تدرك أن لا أحد يختار جيرانه، ولكنها تستطيع ان تنتج الترياق المضاد لعدوانهم. لقد أكدت أوكرانيا قدرتها على ذلك.

ينبغي على الغرب السياسي ان يثبت أنه لن يمل من دعمه ويبقى قادرا على تحقيق الحد الأدنى من التوافق لإفشال حرب الاستنزاف الهادفة للقضاء على الأمة الأوكرانية.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى