كاريش.. تخاذل عربي وعربدة إسرائيلية
الاستماع للمقال صوتياً
|
كتب بسام أبوطوق
يوم الأحد ٦ يونيو دخلت سفينة تنقيب تابعة لإسرائيل إلى حقل كاريش البحري الواقع ضمن حدود المنطقة المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان للبدء بالتنقيب عن الغاز الطبيعي. تخاذل مقصود أو غير مقصود ومماطلة في تأكيد الحقوق اللبنانية لسيادتها على حدودها البحرية، يتحمل مسؤوليته أركان السلطة الحاكمة، وبخاصة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي وضع لبنان في موقف تفاوضي ضعيف حيث وضع المرسوم 6433 المحدد للحدود البحرية اللبنانية في أدراجه، رغم علمه وعلم الجميع بقرب بدء عملية التنقيب الإسرائيلية.
وتثار الآن في لبنان علامات استفهام كبيرة وتفوح روائح كريهة لصفقة مع الوسيط الأميركي وإسرائيل من ورائه. وهكذا فالسلطة الحاكمة في لبنان، برئيسها الذي قارب عهده على الانتهاء و حكومتها وهي في فترة تصريف الأعمال والتي لم تعد تحظى بأي تفويض شعبي، تفرّط في الحقوق وهي تسمح تحت مساومات وتسويفات مختلفة بالهيمنة الإسرائيلية على حقول الغاز اللبنانية في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط على الحدود بين إسرائيل ولبنان، وهي أصلاُ حدود لكيان محتلٍ وسارقٍ ومتعدٍ على كيان فلسطيني مازال قائماً في الحق الدولي والذاكرة التاريخية والشعب الموجود المقسم بين مهجرٍ ولاجئٍ وسلطة تحت الاحتلال.
وفيما يصل المبعوث الأميركي آموس هوستشاين إلى المنطقة بحجة متابعة الوساطة، ولكن بعد أن مهّد الاختراق الإسرائيلي أمامه الطريق لتقرير أمر واقع جديد، يتلازم ذلك مع زيارة رئيسة المفوضية الأوروبي أورسولا فون ديرلاين إلى المنطقة ايضاً، والتي أسفرت عن توقيع مذكرة تفاهم بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي تقضي بنقل كميات من الغاز(( الإسرائيلي)) إلى محطات تسييل في مصر قبل نقله إلى أوروبا.
ولم تكن اتفاقية الغاز الثلاثية رد فعل لتوابع الكباش الأوروبي الروسي حول الأزمة الأوكرانية، بل سبقت ذلك بسنوات. فقد رددت أورسولا دير لاين اتهامها لروسيا باستخدام الغاز كأداة ابتزاز. وهذه الاتفاقية مع مصر سبقتها اتفاقيات في 2014 و2018 ولكنها لم تكن شاملة وسافرة كما وصلت إليه الآن.
بدعمٍ من انحياز أمريكي مموه بالوساطة الدولية، ومستفيدةً من التخاذل والفوضى الحكومية اللبنانية والضعف القومي المصري والانشغال الدولي بكوارث الحرب الروسية الأوكرانية، تعمل إسرائيل بشكل حثيث ودؤوب على نهب و سرقة الغاز اللبناني والفلسطيني، وبالتزامن يسعى الإتحاد الأوروبي لتعزيز التعاون في مجال الطاقة لنقل الغاز الفلسطيني المسروق الى أوروبا، والفرصة مواتية الآن فلن يكون هناك أي رد فعل شعبي لا في أوروبا ولا مصر ولا حتى لدى السلطة الفلسطينية والتي يبدو أنها لم تسمع بهذه الاتفاقية!
فأوروبا في حاجة ماسة إلى استبدال مشترياتها من الغاز الروسي، وحيث أنه ليس لإسرائيل خط أنابيب لربط منصات الحفر في شرقي المتوسط وسواحله بأسواق جنوب أوروبا، لذلك تأتي هذه الاتفاقية كخشبة خلاص لإسرائيل لنقل الغاز الطبيعي عبر تسييله في مصر ونقله بالسفن إلى أوروبا.
والسلطة الحاكمة في مصر قادرة في اللحظة الراهنة على تسويق هذه الاتفاقية المرفوضة شعبياً وعربيا بتجميل الحلول للأزمة الاقتصادية الاجتماعية الداهمة التي تمسك بخناق الشعب المصري في وجوده المعيشي من مخاطر الغذاء والفقر والتدفئة.
وتحصل مصر كمكافأة لهذا الدور الخدماتي على بعض الفتات المتمثل بكميات من القمح بقيمة 200 مليون يورو لتعويض الكميات المحجوزة في الموانئ الأوكرانية ، ووعود بالتمويل بقيمة 3 مليار يورو لبرامج تنمية على مدى السنوات القادمة، وبذلك يتم تسويق اتفاقية العار هذه لدى الشعب المصري على أنها ستؤدي إلى فردوس الأمن الغذائي والرخاء الاقتصادي.
وفي الواقع تقدر واردات الغاز الروسي إلى أوروبا بنحو 200 مليار متر مكعب سنوياً ولن تتمكن اسرائيل ومصر من تصدير أكثر من مليار متر مكعب سنوياً، وبالتالي فهو اتفاق ذو خلفية سياسية تتجاوز حجم كميات الغاز الذي يتم تصديرها وتنصِّب الكيان الصهيوني -بدعم أوروبي -في الموقع المهيمن بالمشرق العربي.
كيف وصلت مصر إلى هذا الوضع السيئ في إدارة ملف الطاقة والغاز؟
بالاتفاق مع إسرائيل وبالتخاذل الحكومي المصري تم ايقاف استثمار حقل ظهر الغازي وهو حقل واعد، وذلك لحساب صفقة مع اسرائيل فرضت على مصر وهي صفقة تتجاوز احتياجات السوق الداخلية بكثير وبأسعار أعلى من الأسعار العالمية، ومن عجائب هذا الزمان أن مصر هي التي كانت تصدر غازاًمصرياً لإسرائيل الأمر الذي كشفته ثورة 2011 ضد التوريث، حيث تبين أن سلطة الوريث جمال ميارك العميقة كانت تبيع الغاز المصري لإسرائيل وبأسعار رمزية.
فإذن فهذه الاتفاقية الثلاثية هي حلقة في سلسلة اتفاقيات لضخ مزيد من الغاز الفلسطيني المسروق لأوروبا عن طريق مصر، لتتضاعف أرباح الشركات الإسرائيلية على حساب وقف بيع الغاز المصري حتى في السوق المحلية والأخطر هو تمكين الهيمنة الإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة.
وهذا مثال فاضح على دفع اقتصادات الدول العربية تدريجياً من اقتصاد منتج يعتمد على موارد المنطقة الطبيعية وطاقات وخبرات شعوبها إلى اقتصاد خدماتي وسمسرات ووساطات، وبدل أن تساعد أوروبا الحرية والتنوير دول المنطقة العربية على تأمين حياة سليمة وصحية نجدها تساهم في وضعهم كسلع في التعاملات الدولية، وتزداد أزمات الجوع والفقر والتبعية والاستسلام للسياسات المهيمنة وسلطات الأمر الواقع، ثم يأتينا من يسأل عن أسباب تفاقم الإرهاب في المنطقة، وعن أسباب استدامة وتحولات الاستبداد واللاديمقراطية من لونٍ الى لون في أنظمة الحكم.
وللتلخيص، فما تؤسس له اتفاقية الالتفاف على الحقوق هذه ليس منصة لتصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، بل منصة لتصدير الغاز الفلسطيني واللبناني المسروق إلى أوروبا وهو يشبه ما يقوم به السارقون من تعديلٍ لمواصفات السلعة المسروقة لإعادة بيعها بغطاء قانوني، فهو أولاً: غاز مسروق من السكان الأصليين الواقعين تحت نير الاحتلال و الأبارتهايد، وهو ثانياً: يتم تسييله في مصر المفترض أنها الشقيقة الكبرى حامية حقوق أشقائها في فلسطين، وثالثاًمن الناحية البراغماتية: فما تحصل عليه مصر هو جزء ضئيل وتافه، فحصتها كحصة الأيتام في مأدبة اللئام، قياساً للتعقيدات التي ستيسرها أمام انسداد الواقع الجغرافي لتوريد الغاز إلى أوروبا.
وإن سأل سائل عن الحلول فهي كما يصفها الاقتصاديون الوطنيون على مستويين: حلول على المدى القصير وتختصر بأن لا تصدر السلع الإستراتيجية، وحلول على المدى المتوسط والطويل تتلخص بالاكتفاء الذاتي …هكذا ببساطة.