عندما يُصرّح نائب لبنان التغييري: أنا أمثِّل الوطن
الاستماع للمقال صوتياً
|
بسام أبوطوق
خلال انتخابات رئاسة مجلس النواب اللبناني والتي عرضت في بث مباشر، قدمت بعض الأوراق تكتب عبارات وشعارات تحمل مطلب العدالة لجرائم اغتيال لقمان سليم وتفجير مرفأ بيروت وشرطة مجلس النواب والنساء المغتصبات، وغيرها من شعارات تكشف على العلن، وفي عقر دار الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة، عن جرائم حاولت هذه الطبقة وتحاول طمس التحقيق فيها و تغييبها، مراهنةً على تقادم الزمن وانشغال الشعب اللبناني بمصيره الذي يتفاقم وبات يمس حتى بوجوده وكينونته.
أبلغ من وصّف هذا المصير هو الرئيس ميشال عون لدى إجابته على سؤال الصحفيين إلى أين سينتهي لبنان ؟ بقوله: إلى جهنم.
الرئيس نبيه بري الذي كان يدير جلسة الانتخاب بصفته رئيس السن المؤقت ريثما يتم انتخاب الرئيس الأصيل، حاول تجاوز هذه الشعارات بإعلانها أوراق ملغاة دون قراءة مضمونها على العلن، لكن احتجاجات نواب التغيير الصريحة والعلنية، واستنادهم إلى نقطة النظام التي تنص على أن الإقتراع سري ولكن الفرز علني، فالورقة يجب أن تقرأ أولاً ثم تلغى إذا انطبق عليها أسباب ومبررات الإلغاء المعروفة برلمانياً، والتي تنص على كتابة الاسم واللقب فقط لاعتماد الورقة، خضع بري ممتعضاً للقانون وطلب من مساعديه قراءة الأوراق، لكن نواب التغيير طالبوا بإعادة قراءة الأوراق الملغاة كلها فتم لهم ذلك، فالقانون في هذه المسألة واضح وعبر عنه نواب التغيير بشجاعة، ولا يموت حق وراءه’مطالب.أعيدت تلاوة الأوراق، وعلى البث المباشر استمع اللبنانيون إلى شعارات ونداءات ثورة 17 تشرين، تذكِّر بجرائم الاغتيال المغيبة على مدى السنوات الماضية وتدعو للعدالة لها، وبصوت من شارك في حجب ملفات التحقيق! وياله من انتصار معنوي حققه نواب التغيير والثورة.
تعرض النواب التغييريون لحملات منظمة وغير منظمة وضعتهم في موضع الاتهام بتبديد الأكثرية النيابية السيادية، وأنهم ساهموا بنجاح رئيس المجلس النيابي ونائبه، بينما تجاهل المشاركون في هذه الحملات بقصدٍ أو غير قصد حقيقتين ساطعتين تجلت للبنانيي 17 تشرين بخبرة العرق والدم.
الحقيقة الأولى: أن نبيه بري هو المرشح الوحيد، لأن هذا المنصب من حصة الطائفة الشيعية حسب أعراف الميثاق الوطني اللبناني لعام 1943 الذي وزع المناصب الرئاسية الثلاثة بين الطوائف اللبنانية الكبرى، ونظراً لأن الثنائي الشيعي المؤلف من حزب الله وحركة أمل قد أحكم إغلاق الطائفة أمام اي مرشح آخر، فقد أمسى بري مرشح نواب الطائفة الشيعية الوحيد!
الحقيقة الثانية: أن العمل السياسي لا يختزل بالانتخابات ونتائجها، وخاصةً إذا كانت خاضعةً للتسويات والتوافقات، بل هو عمل دؤوب ومتراكم، سيبدأ بدخول البرلمان ويمر بالنشاط في اللجان المزمع انتخابها، حيث تفتح الملفات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والتشريعية إلخ ..
وقد افتتح نواب التغيير الموسم الانتخابي بقوة، وفرضوا إيقاعهم الخاص على آلية الانتخابات وعلى أسلوب الحوار والنقاش، كانوا متناغمين متناسقين منسجمين مع تفويض الناخبين لهم، وأحيوا عرساً ديمقراطياً استمع اللبنانيون في الوطن والمهاجر إلى أصداء زغاريده المبشرة، فهم ليسوا أقلية مفككة لا وزن لها كما يظن أصحاب منطق حساب الدكاكين، بل هم كتلة غالبة ومؤثرة ،تظهر فعاليتها في التمسك بالوحدة الوطنية العابرة للطوائف، والدعوة لسيادة الدولة المؤسساتية بعقد اجتماعي جديد مع مواطنيها، والمطالبة الصادقة والصريحة بحكم القانون وتكافؤ الفرص والحياة الديمقراطية والعدالة الإجتماعية. وعندما جادل أحد نواب الطوائف زميله التغييري بسؤاله عن أي مقعد طائفي تم انتخابه أجابه النائب الحر الشجاع : أنا منتخب عن المقعد الوطني.
عام 1943 وباتفاق تسووي بين السني رياض الصلح والماروني بشارة الخوري، تم اعتماد التوزيع الطائفي للمناصب ووظائف الدرجة الأولى بين الطوائف الستة المكونة للبنان، وبعرفٍ غير مكتوب، يتخلى من خلاله المسيحيون عن ارتباطهم بالغرب والمسلمون عن دعوتهم للوحدة مع سوريا. هذا الاتفاق أدى إلى حصول لبنان على الاستقلال والاعتراف الدولي، وإلى تبريد التوترات والاحتقانات بين مكونات المجتمع اللبناني، ولكنه شكل نظاماً هجيناً كان من المفترض أن يكون مؤقتاً، واستمر الزعماء اللبنانيون يتحدثون عن إلغاء الطائفية تدريجياً بينما كانت بذورها المسمومة تنمو وتنتعش بدل أن تخبو وتندثر.
لقد تعرض لبنان للعنة التاريخ والجغرافيا، زمن لا يحتمل التسويات والتوافقات، وموقع لا يسمح بالمشاركة والسلام. وبقدر ما كان للبنانيين نصيب وافر من الحضارة والثقافة والحيوية، بقدر ما كانوا محكومين بأشكال حكم متخلفة مموهة بطابع عصري. وبين سندان التسوية الطائفية المزعومة ومطرقة التدخلات الخارجية الصلبة، مر المجتمع اللبناني المأزوم بحربٍ أهلية عام 1975، ثم اتفاق الطائف الذي أجرى بعض التعديلات على اتفاق 1943، لكنه رسّخ التقسيم الطائفي باتفاق مكتوب هذه المرة، ورفّع أمراء الحرب إلى رتبة زعماء الطوائف، وأخيراً ولن يكون آخراً اتفاق الدوحة 2008 الذي تعامل بواقعية مع الاختلال الحاد في موازين القوى الجديدة.
لا زال الشعب اللبناني يعاني من ظاهر القوانين والدساتير و باطن التوزيع الطائفي والتوافقات،بينما هناك طائفتان لا ثالث لهما في لبنان، طائفة أهل الحكم وزعماء الحرب الذين خلعوا بدلات الميليشيات وارتدوا ألبسة الحكام المدنيين ، حاربوا بعضهم وحاولوا إلغاء بعضهم واختلفوا في الكثير من القضايا ولكنهم اتفقوا في شيئٍ واحد هو تقاسم كعكة السلطة والغنائم بينهم، أما الطائفة الثانية فهي طائفة أفراد الشعب وهم أناس ذوو حيوية وكرامة وحضارة لكنهم يرزحون تحت أقدام زعماء الطائفة الأولى الذين كلما شعروا بالخطر الديمقراطي لجأوا إلى إثارة الفتن وشد العصب الطائفي.
كانت ثورة 17 تشرين الأول ذروة الحراك والاحتجاج الشعبي على الفساد والظلم والكذب، وقد تم امتصاصها ثم إخمادها ولكنها أوصلت 13 نائباً إلى البرلمان، وهذه بداية جديدة ومعظم النار من مستصغر الشرر، وهؤلاء النواب التغييريون بحق سيكونون نواة للتغيير الجارف ولو كره الكارهون.