مقال الرأي

بذور الديمقراطية التونسية بين رحى الإستبداد وجرن الإسلام السياسي

بسام أبوطوق

الاستماع للمقال صوتياً

 

في 25 تموز من العام الفائت، فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيد العالم بإعلانه تعليق عمل البرلمان وإقالة رئيس مجلس الوزراء وتوليه سلطات استثنائية، مبرراً ذلك بوجود تهديد وشيك للدولة التونسية.

وبدل أن يعمل رئيس الدولة على رعاية واجبه الدستوري وحقوق الشعب عليه، للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والارتفاع الجنوني في الأسعار، والبطالة التي التي زادت من معدلات الفقر ودفعت الآلاف من الشباب التونسيين للهجرة إلى دول أوروبية، نجده يخرج من قبعة الحاوي أرانب الحوار الوطني، بشأن الإصلاحات ولجان صياغة الدستور(الجمهورية الجديدة)!

وهل هي صدفة بحتة أن تتصاعد هذه الدعوات للحوار في مصر وتونس والجزائر، أم هو توارد خواطر ومصائر مشتركة لحكام متفرّدين بالحكم، يتعللون بأخطار المؤامرات الخارجية ومكائد الخصوم؟.
نعامة تدفن رأسها في الرمال، وهروب من مسؤوليات وواجبات الحكم إلى أمامٍ وهمي وشعارات عبثية. وكما المدمن على الأفيون، يستمرئ حكام الاستبداد والديكتاتورية قوانين الطوارئ والحالات الاستثنائية التي تدوم لعقود وعقود.

إنها تونس التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات في الشرق الأوسط، وأطاحت في العام 2011 بديكتاتور حكمها 27 عاماً. تونس التي صنفها التقرير السنوي لمؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية، بأنها حرة وهي الدولة الوحيدة في العالم العربي التي حصلت على هذا التصنيف.

لكن، مقابل التقدم على صعيد الانتقال الديمقراطي، كانت الإنجازات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي متواضعة جداً، وتشكل إجماع لدى التونسيين على وجود خلل في المنظومة السياسية التي تحكم تونس منذ 2011، ولكن الاختلاف هو حول الحل. وهذا الحل لا يتجلى في تركيز جميع السلطات بيد شخص واحد، وإعطائه صكاً على بياض ليفعل ما يشاء، ولكنه يكمن في آليات ديمقراطية، كإنتخابات مبكرة وتمثيل أوسع.

حصل الرئيس التونسي على دعم أولي من قطاعات واسعة من الشعب التونسي ومكوناته الحية، ولكنه كان عبارة عن صرخة غضب من انشغال القوى المتحكمة بالمؤسسات الحاكمة، بدأً من حزب الإسلام السياسي (النهضة) وحلفاؤه وغيرهم من قوى ظاهرة وخفية، تنازعت على كعكة الحكم، وتكالبت على مغانم السلطة، وتلهت عن واجبات الحكم، بينما كان عليها التصدي لإيقاف تدهور الاقتصاد وتأمين الخدمات المعيشية وتوسيع دائرة المشاركة لكافة فئات المجتمع في إدارة البلاد.

هي حلول بديهية برهنها العلم السياسي والعقل المجتمعي: التخفيف من الإدارة الأمنية للشأن العام، الإقرار بنضج المجتمع وتجلياته، والكف عن لعب دور الوصي على القاصر، تحرير الفضاء العام للمجتمع ليمارس فيه حريته الفكرية والسياسية والشخصية.

في المقلب الآخر، يلعب الإسلام السياسي على اختلاف مصادره الفكرية ومكوناته السياسية دور الثورة المضادة والخصم المعادل المتربص لإشكالات الحكم والسلطة، يمتطي حصان الديمقراطية المتوثب ليصل إلى السلطة، ثم يترجل عنه ويعقره. فبالنسبة له الديمقراطية هي وسيلة للوصول إلى غاية السلطة، وليس لها أي فرصة في الحياة بعد الظفر بالحكم لإدارة البلاد والمجتمع على قاعدة الشمولية والدوغمائية.

يلعب الإسلام السياسي على عواطف وإيمان الجماهير، فيجر العقلاء والحكماء في مواجهته إلى ملعبه وميدانه، حيث لا فرصة للمنطق أو الحوار والصراحة، بل يجابهون خشبية اللغة وتسويق الوهم. وهو يستولي على دور العبادة ومناسبات الدعوة، التي أسست لفئات الشعب المؤمنة لتمارس عبادتها وإيمانها، ويستثمرها مصدراً للتجييش وفق مصالحه الضيقة وعمادها هو الحكم والتمكين، ولو على حساب مصالح الشعب وحقوقه.وهو لا يعتمد على شعبيته وحجمه، كبر أم صغر، بل يسعى دائماً لنفخ بالون انتشاره الشعبي ببناء نواة صلبة منظمة تستقي من المعتقد المقدس الذي لا يُناقش لإضفاء هالة أوسع كألوان قوس قزح، تتجاوز النسبة التمثيلية الفعلية له في البرلمان والمؤسسات المدنية والأهلية، بوسائل وأساليب غائيتها التحكم والتمكين والسيطرة واستدامة السلطة قولاً واحداً.

وبالعودة إلى الرئيس سعيد، فإن الأحزاب والتيارات المدنية والشعبية التي أيدت قراراته للوهلة الأولى راهنت على مرحلة انتقالية قصيرة تحجِم الإسلام السياسي، وتعيد التوازن إلى عجلة القانون والدستور وتكبح جماح هذا الانهيار السياسي والاقتصادي, وهي الآن في موقع المعارضة لخزعبلات الدعوة إلى حوار وطني يفضي الى إقصاء سياسي، وعلى رأسها القوة المدنية الأولى في في البلاد وأعني بها الاتحاد التونسي للشغل، والذي أعلن في بيانه يوم الجمعة 20 مايو أن احتكار الرئيس سعيد لتعديل الدستور والقانون الانتخابي، خطر على الديمقراطية، محذراً من من مخاطر حصر السلطات في يد الرئيس، وجدد المطالبة بتسريع تشكيل حكومة بكامل الصلاحيات، قادرة على مجابهة تعقيدات الوضع القائم في البلاد حاليا، والذي زادته الحالة الإستثنائية تعقيداً وتأزماً. وهذه معارضة تتسم بالمصداقية حقاً.

لن يستجيب الشعب التونسي وقواه الحية للمفاضلة بين خيارين، الاستبداد والتفرد أو الإسلام السياسي، بل سينحاز الى خيار ثالث أثبت العقل البشري المجتمعي وتجارب الشعوب الحرة صحته وعقلانيته، وهو منظومة الحريات والديمقراطية، وبدون كسر هذه الحلقة الجهنمية بين الأنظمة الاستبدادية والظلامية القروسطية، لن يتسنى لبذور الحياة أن تنمو وتثمر. وأملنا أن تكون هذه البذور أصلب من أن يطحنها حجر رحى الديكتاتورية وجرن الظلامية.

بسام أبو طوق

مهندس وكاتب سوري - كندي مقيم في مونتريال
زر الذهاب إلى الأعلى