الاستماع للمقال صوتياً
|
شاهدنا جميعاً بطولة حاملي نعش أيقونة الشهداء شيرين أبو عاقلة، وصمودهم أمام هراوات الشرطة الإسرائيلية برؤوسهم وأكتافهم المعزولة حتى من حماية أكفهم المشغولة بحمل النعش في إصرارٍ مستميت للحفاظ على مسيرته دون أن يسقط.
ما رأيناه، هو مشهد أسطوري يعجز عن إبداعه كبار مخرجي هوليوود السينمائية، ولكنه واقعي، حيّ، وبالألوان الطبيعية.
هو مشهد “جليات الجديد” بهيئة الشاب الفلسطيني الأعزل في مواجهة غوليات العملاق الإسرائيلي، شاهدناه وشاهده العالم على كل وسائل الإعلام المرئية، ولم نقرأه في كتب الأساطير، وهو لم يسقط هذه المرة تحت ضربات “ديفيد” الفتى الأشقر المحبوب الذي غدا ملكا إثر قتله جليات.
بعثة الاتحاد الأوروبي إلى الأراضي الفلسطينية عبرت في بيان لها عن استيائها من مستوى العنف في حرم مستشفى القديس يوسف طوال مراسم الجنازة الذي مارسته الشرطة الإسرائيلية ودون طائل.
جين ساكي متحدثة البيت الأبيض، أدانت ما وصفته بأنه مقاطع مصورة مزعجة للغاية، لشرطة إسرائيلية تحمل هراوات وتقتحم جنازة مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، وتأسفت ساكي لاقتحام ما كان ينبغي أن تكون مسيرة سلمية.
لكن هذه الإدانات والتصريحات تجاهلت المقابل الأهم للعنف الإسرائيلي المفرط، وهو الصمود البطولي لحاملي النعش الفلسطيني ولالتفاف الشباب الفلسطينيين العزٌل حولهم.
لوسائل الإعلام العالمية نقول، إن إسمه هو جيش الاحتلال الإسرائيلي وليس الجيش الإسرائيلي، هناك فرق شاسع بين المعنيين.
يتفوق الاحتلال الإسرائيلي على نفسه في كل مرةٍ يقوم بحصار وقمع انتفاضات الشعب الفلسطيني المتتالية وهو يدافع عن أرضه وحياته. حالة التغول والإجرام والخرق لشرعة المجتمع الدولي، تشتد وتتفاقم بمقدار ما يزداد يأس الإسرائيليين وعجزهم عن إخماد هذه الانتفاضات.
أقوى آلة حرب إسرائيلية وأشرس تجمعات استيطانية لم تستطع أن تخمد جذوة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، فكلما تخبو هذه الجذوة بتأثير الرياح العاتية، تعود وتتقد، ويوماً بعد يوم يتأكد الإسرائيليين ومن يقف وراءهم ومعهم، أنه لا فائدة .. لا فائدة من الاستمرار بالعدوان، ولا الاستمرار بالاستيطان، ولا الاستمرار بالتمييز العنصري، بالإضافة الى ما يستدعي ذلك من أكلاف اقتصادية وبشرية وسياسية هائلة ومن دون نصر منظور في الأفق.
هذا جيل فلسطيني، يتسلم رايةً من جيل يسبقه، منسوجةً لحمتها وسداها من إرادة الحياة وذاكرة الشعب، وعبر عقود من السنين فإن كل محاولات الإبادة والتشريد والتهجير، وإن نجحت جزئياً في الزمان الحاضر، لكنها لن تنجح في ردم التاريخ وتغيير المستقبل، ما دامت جذوة الحياة والمقاومة والصمود تتّقد وتستعر.
اربعة وسبعون عاماً مرت على نكبة 1948 المشؤومة، وما زال جيش الإحتلال الإسرائيلي يواصل سيطرته المسلحة على أراضي فلسطين المحتلة، مرتكباً جرائمه على تضادٍ مع حركة التاريخ، فالإستعمار العالمي إلى تراجعٍ وزوال، والاحتلال الإسرائيلي إلى تصاعد وتوسع، لكن هذا الاندفاع المعاكس لمنطق التاريخ لا يحمل إمكانية الاستمرار، فهو يواجه شعب مقاوم فلسطيني يتمسك بأسنانه وأظافره بأرضه التاريخية، وبحقه في العيش بحرية وكرامة وتقرير مصيره في دولته المستقلة في إطار قرار الدولتين.
إن روح الشعب الفلسطيني المتقدة وذاكرته الحية لن تموت ولن تفنى، وهذا ليس كلام شعارات ولافتات بل هو حقائق ووقائع تثبتها الأحداث كل يوم وكل حين.
إن الجغرافيا الفلسطينية قائمة لاتزول، والتاريخ الفلسطيني حي لا يُلغى، والشعب الفلسطيني باقٍ يتوالد ويتكاثر، ورموزه هي زيتون جنين و برتقال يافا وعنب الخليل
لن يستمر انسداد الحلول المطروحة إلى مالا نهاية، ومحاولات إلغاء المقاومة الشعبية السلمية وتصفيرها وحصارها في حالة سكونية ومستديمة من خذلانٍ وتعبٍ وإحباط، هذه المحاولات تثبت أكثر فأكثر فشلها، وسيصل المجتمع الدولي والنظام العالمي إلى أنه لا حل لتبريد هذه التوترات وإخماد هذه الانفجارات، إلا بحلولٍ عادلةٍ مستديمة، تتكلل بتثبيت حقوق الشعب الفلسطيني ودولته المستقلة على أرضه التاريخية.
إلى الأبطال الذين حملوا نعش ايقونة الشهادة “شيرين أبو عاقلة” نردد مع نشيد اللبناني أحمد قعبور : أناديكم.. أشد على أياديكم.. وأبوس الأرض من تحت نعالكم.
ومع الشاعر الفلسطيني محمود درويش نردد: على هذه الأرض مايستحق الحياة.