معادلة حكم جديدة في العراق
الاستماع للمقال صوتياً
|
عمر الشمري، صحافي عراقي
عضو هيئة تحرير وايتهاوس ان أرابيك
يبدو أن طيفاً واسعاً من الفاعل السياسي العراق، فطن أخيراً، إلى المأزق الذي تسير به العملية السياسية في البلاد، منذ سقوط نظام صدام حسين، عام 2003، إذ تمخضت الفوضى التي أعقبت الغزو الأميركي، عن نظام سياسي مهلهل، خاوي القوى، لم ينتج حكومات قادرة على مواجهة التحديات، وهذا يعود بالطبع إلى الصيغة التوافقية، في إدارة الدولة، وتمثيل المكوّنات، من قبل أطياف سياسية، ساهمت بتعميق أزمات البلاد، واعتمدت الخطاب الطائفي، ذريعة لوجودها، وإدامة لمشاريعها.
وعلى رغم الإشارات التي اتضحت بعد سنوات للجميع بعدم إمكانية المضي في النموذج العراقي الجديد، بتلك الصيغة، وتجاهل التجارب الدولية، في المسار الديمقراطي، إلا أن خيار الفاعل العراقي، كان ضعيفاً، في مواجهة، أزمة الحكم، وهذا يعود إلى جملة اعتبارات، ليس هنا محل سردها.
وكانت أولى الإشارات التي تلقتها الطبقة الحاكمة، هي الضغط الشعبي، لإنهاء الحرب الطائفية، بين السنة والشيعة، عام 2006، وما بعدها، فعلى رغم تماهي أو ضعف الممثلين السياسين في أتمتة الأمن، وتعزيز الشرعية القانونية، للدولة، وإعلاء رمزية المواطن وهويته، إلا أن النداءات الشعبية كانت مُلحة، بضرورة وضع حد لهذا الانفلات، وهو ما حصل بالفعل، آنذاك بمساعدة دولية مثل الولايات المتحدة، التي دعمت العشائر في مواجهة التنظيمات المتطرفة غربي البلاد، وهو المشروع الذي أفضى لاحقاً إلى تثبيت الاستقرار في معظم مدن العراق.
وإذا كان العراق يُجري انتخابات بالفعل، فإن مكامن الخلل كانت واضحة في توزيع المناصب السيادية، وهي خطة غير حكيمة أُرسيت، بفعل التحاصص الحزبي والطائفي، وهو ما كان يعود بشكل ارتدادي على الملف الخدمي، والحياة العامة للمواطنين، الذين بدأوا يتذمرون من بقاء أوضاع بلادهم، تحت هذا النمط، غير المجدي من الحكم، لتنطلق أول احتجاجات عراقية عام 2011، ونادت بشكل صريح بإسقاط الحكومة، وإجراء تعديلات على طبيعة النظام الديمقراطي.
ومع كل انتخابات نيابية، أجريت، كانت الأصوات تتعالى بضرورة الانصياع لصوت الشعب، بتعديل مسار الدولة، والخروج من المحاصصة، إذ يعتقد قطاع واسع وعريض بأن تقاسم المناصب، وتقديم الهويات الفرعية، على المشتركات الوطنية، ساهمت بإيصال أشخاص غير كفوئين لمناصب حسّاسة، فضلاً عن ما تثيرة تلك الطريقة في الحكم من اشمزاز، وتعزز الانقسام المجتمعي، في وقت يسعى العراق نحو الانعتاق من مخلفات الماضي، والتشبث بأية دعامة تعزز تماسك المجتمع، وتثبت الهوية الجامعة للوطن.
لكن اللحظة الفارقة لهذا النداء، والتوجه الشعبي، كانت هي الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في أكتوبر من العام 2019، ورفعت راية التحرير من النفوذ الأجنبي، واستقلال القرار الوطني، ومناهضة تدخل دول الجوار، فضلاً عن ضرورة تحسين آلية الحكم، والترفع عن التسميات المناطقية، وصناعة جهة سياسية قائدة، وقادرة على تحمل المسؤولية.
كانت رؤية الشباب العراقي، تقوم على ضرورة أن يتحمل حزب أو تكتّل سياسي المسؤولية، بشكل واضح، أمام الرأي العام، وعدم تكرار التجارب الماضية، في تأليف حكومات توافقية، يشارك فيها الجميع، ولا يعارضها أحد، وهو ما تسببب بحكومات خانعة، وينخرها الفساد المالي والإداري، فضلاً عن إقرار قانون انتخابي عادل، وهو ما حصل بالفعل، كما أنه حظي بتأييد المرجعية الدينية في النجف، وعلى رغم الإخفاقات القانونية في جوانب هذا التشريع، فإنه شكل نقلة نوعية، وواضحة نحو مسار جديد، إذ كان القانون القديم، يعطي رؤساء الكتل والأحزاب السطوة على النواب المنتخبين، ليأتي القانون الجديد، ويكسر هذا القالب، ويساهم في تفكيك الكارتلات الطائفية والعرقية، التي صنعتها المحاصصة.
إن وصول طبقة شابة إلى ميادين السياسة، والمجالس النيابية، بما تحمله من فكر جديد وحديث، ومتحرر من الرغبة الإقليمية، مثل الإيرانية والتركية، سيكون جزءاً في مسار التحول العراقي، وهي فكرة، تحقق جزء منها، حيث وصل إلى المجلس النيابي، نحو 50 نائباً مستقلاً عن الأحزاب الكبيرة، وهو ما أعطى دفعة أمل، بإمكانية التخلص من الطبقة الحاكمة، لكن هذا المشروع، بحاجة إلى جهد وطني، مكثف، ومنظم، يأخذ بنظر الاعتبار جملة العوامل المغذية لبقاء هذه الأحزاب.
على رغم تلك الصعوبات، كان هدم فكرة المكونات، وحكم الطوائف، والتثقيف نحو الحكومة المدنية، وتحويل فهم السياسة من الهوياتي على أساس المذهب والعرق للفاعل السياسي، إلى آخر براغماتي، يعتمد الأداء السياسي، لهؤلاء الفاعلين.
وعلى رغم إفراز نتائج الانتخابات فوز أحزاب قديمة، تتحمل جزءاً كبيراً من تركة الماضي، لكن الاهتمام بالمشروع، كان السمة السائدة، لمرحلة ما بعد الانتخابات، حيث برز مشروعان؛ الأول، “حكومة الأغبية الوطنية” وهو برئاسة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي تحالف مع رئيس البرلمان السني، محمد الحلبوسي، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، في أربيل مسعود بارزاني.
شكل هذا المشروع، ضداً نوعياً لمشروع حلفاء إيران، الراغبين بتشكيل حكومة توافقية، وبالتالي المضي في المسار القديم، الحائر في إدارة الدولة، على رغم أن التوجه العام يشكك بمدى جدّية أصحاب مشروع “الأغلبية الوطنية”، ورغبتهم الصادقة في تحقيق تقدم نوعي، إلا أن النخب العراقية دفعت باتجاه هذا الأمر، دون النظر إلى الشخوص، بهدف إدامة المشروع، وتعزيز هذا النوع، من إدارة الدولة.
تتلخص حكومة الأغلبية وفق ما يراها تحالف “إنقاذ الوطن”، بتشيكل حكومة تقتصر المشاركة فيها على أعضائه، على أن يمارس الآخرون حق المعارضة، لكن الخلافات حول ذلك ما زالت مستمرة، وقائمة.
وإذا كان لدى المجتمع الدولي، رؤية ورغبة في مساندة الشعب العراقي، فإن مشروع حكومة الأغلبية الوطنية، سيكون الخيار المناسب، فمن غير المعقول، الاصطفاف من حلفاء إيران، لكن إيجاد مقاربة وازنة، مع الصدر، والحلبوسي، وبارزاني، الذين أعلنوا رغبتهم بتحمل المسؤولية، للأربع سنوات المقبلة