الاستماع للمقال صوتياً
|
رغم التعتيم المخيِّم على قضايا وحقوق الشعوب المستباحة، لابد أن نردد بارتياح أن ’ما زال العالم بخير’ عندما نفاجأ مع متابعي وسائل الإعلام العالمي بإعلاميين جريئين وصادقين يرفعون البطاقة الحمراء في وجه رؤساء مستبدين، عندما يحاولون قلب الحقائق وتضليل الرأي العام العالمي.
فها نحن نشاهد الإعلامية المخضرمة في شبكة الCNN، كريستيان أمانبور، تحاصر رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، خلال محاورتها له بشأن التطورات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، عندما تواجهه بتصريحات وحقائق الأمر الذي أثار انزعاج بينيت فيرد بغضب: ما تدعينه خاطئ وهذه مجرد أكاذيب، فتجيبه المذيعة المتمكنة: لا ياسيدي لا يمكنك أن تقول هذا لي، وأشارت الى أن الضفة الغربية محتلة منذ عام 1967، ويسمح للمستوطنين بالتواجد فيها، وهم عنيفون.
مساحة هذا المقال ليست قصة صراحة المذيعة الأمريكية في وجه تعنت رئيس الوزراء الإسرائيلي وحسب، بقدر ما هي مقدمة للإضاءة على مدى التغول الاسرائيلي على فلسطينيي الأراضي المحتلة والقدس في قلبها، وعلى المستوى المتصاعد لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الذي ينظم ويراقب حقوق الإنسان والشعوب في المناطق الواقعة تحت الاحتلال.
إقتحام المسجد الأقصى الذي أثار هذا الجدل بين مذيعة الـ CNN ورئيس الوزراء الإسرائيلي، هو مشهد من مشاهد متكررة منذ احتلت إسرائيل أراضي الضفة الغربية عام 1967 ومنها القدس الشرقية التي تحتضن المسجد الأقصى ثالث المقدسات الإسلامية، وكأن الزمن يتجمد عند هذه اللحظة ويعيد تكرارها.
المشهد يتلخّص بمنظمات دينية يهودية متطرفة بحماية من السلطة الإسرائيلية, تدعو إلى إقامة شعائر دينية في باحة المسجد الأقصى، يستفز ذلك مشاعر الفلسطينيين والمسلمين فيدافعوا عن مقدساتهم وإيمانهم ، فتتقدم جحافل المستوطنين بدعم وإسناد من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح باقتحام باحات المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين العزل وإجبارهم على إخلاء ساحات المسجد.. عين تواجه المخرز!
بموازاة ذلك الحراك يشتعل قطاع غزة بغارات الطيران الإسرائيلي والقصف المفرط، وترد سلطة حماس المتحكمة في القطاع برشقات من صواريخ، أثرها الإعلامي يتجاوز حدود الضرر المسيطَر عليه في الجانب الإسرائيلي، ولكنه يعطي مبرراً محسوباً ومدروساً لبلبلة المجتمع الدولي وإرباكه والحد من وحدة مواقفه أمام هذه الانتهاكات الفاضحة للقوانين والمعايير الدولية.
لقد تصاعد الاحتلال الإسرائيلي وفق استراتيجية القضم والهضم، فمن الاستيلاء على جزء من فلسطين السليبة وتأسيس دولة إسرائيل عليها عام 1948 بعد تهجير ما أمكن من الشعب الفلسطيني لتحقيق قاعدة وطن بلا شعب لشعب بلا وطن، ثم الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب 1967، إلى استدراج منظمة التحرير الفلسطينية واستيعابها بسلطة إدارة ذاتية مقصوصة الأجنحة والأظافر بعد اتفاقية أوسلو 1993. وتتصاعد وتتعزز سياسة الاستيطان في المناطق الفلسطينية المحتلة – وهي أشرس حالات الأبارتيد والفصل العنصري – بينما يطمح الاحتلال الإسرائيلي إلى تحويل الشعب الفلسطيني
إلى أقلية على أراضٍ متنازع عليها – حسب تعبير نفتالي بينيت – فحتى الانصياع والخضوع التام لن يكفي الدولة الصهيونية، بل طردٍ وترحيل حسب سياسة الترانسفير.
وإذا كانت هذه سمات وأهداف وممارسات الإحتلال الإسرائيلي، فما هي ردود الفعل من الجانب الآخر المعتدى عليه؟ لقد توزع الشعب الفلسطيني على ثلاث مناطق تتفق في المصيبة المشتركة وتختلف في الظروف والقوانين التي تعيش في ظلها.
ففي الضفة الغربية تحكم سلطة وطنية بصيغة إدارة ذاتية، تشكلت من مؤسسات الثورة الفلسطينية بعد عودتها من اللجوء والمنافي والمهاجر، وتدهورها وانحدارها من الصعود الوطني الناري، إلى الانحطاط التصالحي البارد. فهي قد تحولت إلى شلل فساد وعلقات طفيلية! مخاتير ورؤساء بلديات تعتاش على مكاسب هزيلة وتفرّط بمكتسبات وحقوق الشعب الفلسطيني وتهدر الموارد والطاقات وتسلم بشمولية واستدامة السيطرة الإسرائيلية. الشعب الفلسطيني بأجياله الشابة هو وحده الذي يقاوم بلحمه العاري، والسلطة المسماة وطنية تكتفي ببيانات الاستنكار وخطابات الاستغاثة.
أما قطاع غزة الذي يحتضن المدينة التي كانت أبيةً على الغزوات والاحتلال، والتي أجبرت يوماً ما الغازي نابليون بونابرت في ذروة عظمته على التراجع وفك الحصار عنها، هذا القطاع يتحكم به اليوم مجموعات قروسطية متخلفة ترخي بظلالها السوداء على أهل القطاع وتستعملهم رهينة ودروع بشرية لدوام تحكمهم وسيطرتهم وزيادة وزنهم وحصتهم في أي تسوية مقبلة، وتخضع لحصارٍ إسرائيلي محكم تستعمل فيه إسرائيل القوة المفرطة، تقوم بحرث غزة بالصواريخ والقنابل بين الحين والحين.
يبقى شعبنا الفلسطيني في أراضي ال 48، وهذا له دوره في المقاومة وفق آليات وقواعد تفرضها ظروف خضوعه للقانون الإسرائيلي.
مازال الإحتلال الإسرائيلي يطور أدواته وسياساته لاستدامة الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية المحتلة وتنشيط وتوسيع الاستيطان، ومازال يبتدع الوسائل لفرض الأمر الواقع مستعملاً فرط القوة المدعومة أو المسكوت عنها دولياً. في هذا السياق فإن عبء المقاومة الوطنية المشروعة يقع على عاتق الشعب الفلسطيني الأعزل حتى من قيادةٍ منتخبةٍ مسؤولة، تجمع المجزأ، وتوجه طاقات الأجيال الشابة، وتستنهض المؤسسات القائمة، وتبتدع مؤسسات حديثة، تخاطب الرأي العام العالمي والقوى الإقليمية والدولية المؤثرة بلغة قوية وواضحة، تستند إلى مقاومة الشعب الفلسطيني ومشروعية حقوقه بحنكة السياسي وخبرة المفاوض.
لا يمكن إخماد القضية الفلسطينية بالحصار والاستيطان والتهويد والفصل العنصري والخنق الاقتصاد والقمع الأمني والتلاعب بالمعايير الدولية. والأجدى لإطفاء النيران المشتعلة في المنطقة وجوارها وإنهاء التوتر الكامن والظاهر، معالجة الأزمة بمقياس دولي عادل يعطي لكل صاحب حقٍ مشروع حقه، وعلى هذا الأساس تبنى علاقات الجوار والتكافؤ والعدالة.
المهام كبيرة وجسيمة، والواقع مؤلم ومحبط ولكن الطاقة الإيجابية في حراك أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع ومناطق ال48 والمهاجر والمنافي، هي بصيص الأمل وخشبة الخلاص.