الاستماع للمقال صوتياً
|
يحدثنا تاريخ السهوب الآسيوية الفسيحة في العصور القديمة أن كل موجة من انتشار القبائل الرعوية من أجل الكلأ والماءتطرد الموجة التي سبقتها من الشرق الى الغرب، وهكذا فقد زاحم التوسع المغولي الجارف بقيادة جنكيزخان قبيلة تركية يقودها سليمان شاه التي حاولت عبور الفرات فغرق سليمان، و قاد الباقين ابنه أرطغرل، وعلى ربوة في الأناضول راقب فريقين يقتتلان، وكاد أضعفهما يهلك فأعانه.
انتصر السلطان السلجوقي علاء الدين فكافأه بمنحه أرضاً ولد فيها عثمان بن أرطغرل عام 1258 وأسس الإمبراطورية العثمانية التي استوعبت وورثت بقايا الخلافة الإسلامية الممزقة بين دولٍ وإمارات، وامتدت إلى شرق ووسط أوروبا.
بعيدا عن رحابة التاريخ، فإن صعود الإمبراطورية العثمانية بداية القرون الوسطى تحول الى هبوطٍ وانحدار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، و بعد أن ولَدت الاندفاعة العثمانية رعباً لدى أوروبا، تحول الركود العثماني إلى هموم وخوف على توازن القوى الأوروبية الكبرى، وهو ما سمي بالمسألة الشرقية وتركة الرجل المريض.
بعد الحرب العالمية الأولى كان على تركيا أن تصفّي حسابها مع الذكريات العثمانية، وأن تنقلب بعنف من النقيض الى النقيض حين وجد كمال أتاتورك – أبو تركيا الحديثة – أن الدين لم يعد سلاحاً سياسياً مؤثراً في يد الحاكم التركي ولم يعد يحقق لها الوجود الإمبراطوري الزائل، فكانت الكمالية ثورةً على الدين – الدين السياسي نقصد- و على الانتماء الشرقي، بقدر ما كانت ثورةً من أجل العلمانية والالتحاق بالعالم الغربي.
وتمر عقود من الزمن، تطورات وصراعات وانقلابات، تتضاءل الكمالية وينتعش الإسلام السياسي ولكن بإهابٍ قوميٍ تركي. وعلى مسرح الأحداث يتبوأ رجب طيب أردوغان الصدارة، فهو ممثل السياسة التركية الجديدة في العودة إلى الشرق، ولكن باستعلاءٍ وصلف. يقول أردوغان: “إن تركيا أكبر من حدودها الحالية، وستتصدى لمن يحاولون تحديد تاريخ تركيا وأمتنا بتسعين عاماً”، ايصير هذا القول نهجه بالعودة الى حدود ما قبل الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وعليه كانت مغامراته وتدخلاته في سوريا و ليبيا و تونس و شرق البحر المتوسط.
لا شك أن اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتحولات في الاصطفافات الدولية، والضغط الأميركي والأوروبي على باقي الدول ذات النفوذ الإقليمي للإلتزام بالعقوبات المفروضة على روسيا، لا يترك الكثير من الهوامش للمناورات لهذه الدول – ومنها تركيا. وفيما تحاول الأخيرة الحفاظ على رهاناتها، وحماية مصالحها الاقتصادية والأمنية، فلا بد لها أن توّدع مؤقتاً – أو الى الأبد – أحلامها باستعادة النفوذ العثماني، والتي استدعت مغامراتها وتدخلاتها في سوريا وليبيا وتونس وشرق البحر المتوسط.
وفيما يعتقد أردوغان أن تجدد اهتمام القادة الغربيين بتركيا هو فرصة لاقتناص عروض جديدة تزيد من الأهمية الاستراتيجية لتركيا، فلابد له أن يقدم في دفتر عروضه تهدئةً للتوترات مع دول الجوار العربي، وحتى إخمادها الى الصفر إذا لزم الأمر.
في هذا السياق تأتي زيارة أردوغان الى المملكة العربية السعودية ولقاؤه العاهل السعودي وولي عهده، و تحسين العلاقات مع مصر، وتخفيف التدخل السافر في ليبيا وتونس، وهي خطوات خجولة لا تكفي لمسح آثار الفترة السابقة، ولا لقراءةٍ جديدةٍ متقدمةٍ لضرورات الأمن والإقتصاد والسياسة الإقليمية لدول الشرق الأوسط، بل يجب ترسيخها وتدعيمها ببروتوكولات ولجان عمل ببرامج واضحة.
إن عقارب الساعة لاتعود الى الوراء، فإذا كانت تركيا قد ابتلعت مرارة هزيمتها قبل مائة عام، فعليها أن تفتح فصلاً جديداً من فصول كتاب العلاقات التركية العربية، وأن تتواضع وتتناسى ماضيها العثماني وتبدأ بغزل علاقاتها مع الجيران العرب كعلاقات حسن جوار وتشارك في المصادر والموقع والمصير، فتركيا بحاجة إلى العالم العربي حليفاً وشريكاً في رسم اللوحة الإقليمية الجديدة.
عموماً منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تطورات مهمة في مرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا، وعلاقات المصادر الرئيسة للنفط والغاز والغذاء و توزيعها ستكتب من جديد، وعلى القيادة التركية أن تعي حجم هذه التغييراتى لتكون جزءاً من الحركة العالمية الجديدة لإعادة ترتيب أوراق المنطقة وتحالفاتها إذا ما استمرت حكومة أردوغان في الحكم.
إن منهج القفز إلى الأمام في حل المشاكل المصيرية إنما يليق بالحكومات الاستبدادية والمغامرة، وليس بحكومة ترتدي عباءة الديمقراطية وتسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتطمح إلى حسن الجوار مع الدول العربية التي تشترك معها في الإقليم والمصادر والتاريخ.