في دروس زيارة أردوغان للمملكة
الاستماع للمقال صوتياً
|
سمير التقي
فيما حبس الكثيرون أنفاسهم عند لقاء الرئيس أردوغان مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لخصت لحظة اللقاء أحد أهم المنعطفات في التبدل العميق الجاري في الإقليم. ولم تلبث أن ذكرت وكالة الأنباء السعودية بعد اللقاء، أن الجانبين ناقشا سبل توسيع التعاون “في جميع المجالات”. وكان واضحا ان أهمية الزيارة لا تكمن في مجرد إحياء العلاقات بين البلدين فحسب، ولكنها تعبر عن تغير قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها.
لا شك في أن للزيارة أبعاداً اقتصادية هامة بالنسبة لتركيا، سواء في مجابهتها للتضخم الجامح، أو أزمة العملة، أو تدعيم وضعها الاقتصادي، بما يحمله كل ذلك أيضاً من أبعاد انتخابية مقبلة لأردوغان. فلقد اندلعت أزمة الليرة في أواخر عام 2021 بسبب سياسة نقدية غير تقليدية مدعومة من أردوغان، أدت إلى ارتفاع التضخم إلى أعلى من 60٪. لذلك تريد تركيا أن تنضم السعودية لتساهم في شبكة مبادلة عملات تبلغ قيمتها حاليا 28 مليار دولار.
وحتى قبل الزيارة، انعكست الجهود الدبلوماسية التمهيدية، في تحقيق تخفيض كبير في مستوى المقاطعة السعودية غير المعلنة لتركيا، وارتفعت بالتالي واردات المملكة العربية السعودية من تركيا بنسبة 2.8٪ في الشهرين الأولين من عام 2022 وحدهما. ذلك ان السوق السعودية بالنسبة لتركيا، تتمتع بأهمية استثنائية خاصة، لا تقارن بباقي دول الخليج. والأمر لا ينحصر في أهمية السوق المتبادلة بينهما فحسب، بل ما قد يكون أهم من ذلك، هو الاستثمارات المشتركة سواء في تركيا أو خارجها، لينعكس ذلك على حجم التجارة والسياحة والعلاقات الاقتصادية.
ولم تكن هذه الزيارة مجرد خطوة أولى في انعطاف الرئيس أردوغان، بل سبقتها عمليات عديدة لإعادة هيكلة العلاقات التركية الإقليمية صعودا نحو هذه اللحظة. فلقد سبقت تلك هذه الزيارة، رحلة أردوغان إلى الإمارات في فبراير، التي أسفرت عن تبادلات بقيمة 4.9 مليار دولار. هذه الزيارة التي ساهمت ولا شك في استقرار الليرة التركية، فضلا عن ما قيل عن النية لإنشاء صندوق بقيمة 10 ملايين دولار للاستثمارات في الاقتصاد التركي.
في ذات السياق، رحبت أنقرة في آذار/مارس، ترحيبا استثنائيا ً حارا بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، وأعادت إطلاق برامج واسعة للعلاقات المتبادلة. كما يسير بقوة العمل على إصلاح العلاقات مع مصر والتي يعتقد أنها لعبت دورا هاما في تحقيق الزيارة للسعودية.
لكن سيرة الاقتصاد لا تكفي لفهم جوهر القصة! فزمام التبدلات العميقة الجارية في المنطقة ولعالم لا يبهت دور المصالح الاقتصادية البحتة فحسب، بل ويبهت موقع الأيديولوجية أصلاً. لقد سرَّع التحول الجاري في سقوطها كرصيد استراتيجي وكدافع في رسم التحالفات.
في العقدين الماضيين، اتخذت كل من تركيا والمملكة العربية السعودية، خيارات استراتيجية متباعدة، أثرت فيها التوجهات الأيديولوجية، وساهمت بشكل كبير في خلق مناخ من الفراغ الإقليمي الخطر. وفي حين تستمر ايران في النفخ في عصبياتها الأيديولوجية، مستفيدة من هذا التباعد، فلقد تمكنت من بناء مجمل جهدها السياسي والإعلامي الإقليمي على تعويض ضعفها الجيو-اقتصادي والتنموي عبر تسعير الأيديولوجيا وتذخيرها كأداة للتوسع الاستراتيجي.
الغريب أن تركيا، وعلى غرار المملكة العربية السعودية، لم تكن أصلا بحاجة للأيديولوجيا لتشكيل دورها العالمي والإقليمي. فكلاهما، في اخر المطاف، ورغم الفروق البنيوية الكبيرة، تحتلان وتتكاملان في موقعهما الحضاري الإقليمي بالاستناد، أولا وأخيرا، إلى دور وطني قوي وموقع جيو-اقتصادي عالمي وإقليمي راسخ. ولفترة ما بدى وكأن تركيا تنزلق نحو نسخة تركية للمقاربة الإيرانية، فيما يخص تذخير العقيدة كسلاح إقليمي.
لكن، وبعد عقود من هذه السياسات، سرعان ما صارت المقاربات الأيديولوجية ذاتها، تهديدا لمواطن القوة الموضوعية لتركيا. وإذ يتسارع انسدال الستار الحديدي الجديد، بين الغرب وروسيا، نجد الكثير مما كان البارحة مستحيلا أيديولوجياً واقتصاديا يتحقق بفضل صعود الصراع الاستراتيجي الإقليمي والكوني. أقرب الأمثلة على ذلك، وهي عديدة، نلاحظها في أوروبا التي قررت عن سابق إصرار وتصميم، أن تدخل نفسها في أزمة انكماش اقتصادي عميق كي تحرم بوتين من ابتزازه الإستراتيجي للطاقة.
هكذا، فبعد أن طفت لفترة أوهام حول وعود بوتين التي أطلقها في سوتشي 2018، بهيمنة روسيا على خطوط الطاقة من آسيا نحو أوروبا، وتقاسم هذه الهيمنة مع تركيا، لتكون منصة وصنبور توزيع للطاقة إلى أوروبا، لم يتبق من الأوهام إلا أضغاثها، بعد أن بددتها كالهشيم حماقة بوتين في أوكرانيا.
لكن، للحقيقة، تدل المؤشرات والأفعال، أن أردوغان كان يتلمس الانعطاف الراهن، وبادر بشكل استباقي لإعادة تموضع تركيا من جديد، قبل التبدلات الأخيرة بما يقارب السنتين. ها هو أردوغان ينخرط في عملية تأديبية مكلفة لروسيا جنوب غرب إدلب 2020، ثم ها هو يلاعبها ليخرجها من منافذ الطاقة في ليبيا، بل ها هو يزعزع تحالفاتها في القفقاس، سواء مع أذربيجان او أرمينيا.
من جهتها، وفي حين لا تزال المملكة العربية السعودية منخرطة في حرب بالوكالة مع إيران في اليمن، وفي حين تواصل المملكة التعامل مع إيران تكتيكيا للحل هناك، نجد أن إيقاع التفاهمات بين خصوم إيران، يتسارع في الإقليم ليمتد بين تركيا وإسرائيل ومصر، حيث تطبخ توافقاتها سياسات جديدة تجاه إيران كعدو مشترك.
في مناخ تعاني فيه الركيزة الاستراتيجية العربية من ضعف جوهري مستحكم، تشكل التوافقات مع تركيا، بلا شك، تعزيزاً جديا لهذا البعد، ذلك أن غيوم الأزمات تتجمع في الشرق الأوسط من جديد. ويتوقع كبار الباحثين المختصين في الإقليم أن تدخل المنطقة في دورة جديدة من الحراك الاجتماعي نتيجة الفشل العميق لبدائل الربيع العربي من جهة، وتفاقم الأزمات المجتمعية من جهة أخرى.
فأزمة الحوكمة التي ولدت الحراك في العقد الثاني من هذا القرن لا تزال مستحكمة تنمويا ومجتمعيا. وبعد غزوة أوكرانيا، يتوقع الخبراء تفاقم أزمة أسعار الغذاء بشكل كبير بما قد يصل حد المجاعات، ناهيك عن تأثير التبدل المناخي المتسارع في الشرق الأوسط وشمال افريقيا في إشاعة المزيد من الفقر والحرمان. أمام نذر هذه العواصف، تقتضي الحكمة تعزيز عوامل الاستقرار، في حين ستجد الأيديولوجية المتطرفة في هذه الظروف الصعبة، مرتعا خصبا لها من جديد.
وإذ تعيد الركائز الاستراتيجية تموضعها في الإقليم، قد يستمر الاستثمار في لعبة الاقتصاد والأيديولوجية، لكن التحالفات في الإقليم تعود لقواعدها، لتكون زيارة اردوغان تتويجا لنسق جديد.