الاستماع للمقال صوتياً
|
ظلت دول الخليج محايدة إلى حد ما، بخصوص الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي ظل احتدام الصراع الدولي تطرح تساؤلات حول مستقبل دور تحالف أوبك+ بعد أن أصبحت أوبك ساحة مركزية من ساحات الصراع ضد روسيا إثر عدوانها غير المبرر على أوكرانيا. ويترقب الخبراء بفزع المخاطر الناجمة عن تذخير موارد الطاقة في العالم، ليس من حيث أبعاده الاقتصادية فحسب، بل من حيث ما سيولده حتما من صراعات استراتيجية.
وبينما تحوم الذئاب الجائعة في صراعها على موارد الطاقة، يترقب المتابعون لوضع الطاقة احتمال أن يترجم هذا التصاعد إلى مجابهات تعيد رسم التحالفات في الإقليم. وإذ تكتشف الولايات المتحدة بمرارة حقيقة أن دول الخليج ليست شريكا في صراعها ضد روسيا، يمكن قراءة بعض من هذه المرارة في ردة الفعل على الترحيب ببشار الأسد منذ أسابيع، في أوج حملة دعاية للترويج له، يخوضها حليفه الروسي في أوكرانيا.
قبل ذلك بأسابيع، زار رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كلاً من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ليس للترويج لبريطانيا العالمية فحسب، بل، ومن حيث الأساس، لاستكشاف نوايا كل منهما فيما يتعلق بمستقبل علاقتهما مع الغرب، ومدى عزمهما على الاستمرار في تمكين روسيا من الاستفادة من تذخير النفط في صراعها مع الغرب. خاصة بعد أن أحجمت هاتان الدولتان عن تلقي مكالمة الرئيس الأمريكي جو بايدن الهادفة لحشد الدعم لسياسته في أوكرانيا، الأمر الذي أكد بوضوح مدى الامتعاض الخليجي من فشل هذا الغرب السياسي في دعم أمنه.
تمتد قائمة المرارة الخليجية من السياسات الغربية والأمريكية خاصة فشل إدارة بايدن في وضع المتمردين الحوثيين على القائمة الأمريكية للجماعات الإرهابية، وفشلها في تقديم حد أدنى من الدعم ضد الهجمات بالطائرات بدون طيار والصواريخ التي شنتها الجماعة المتمردة المدعومة من إيران في وقت سابق على العاصمة الإماراتية أبو ظبي، ناهيك عن مقاربة الإدارة الأمريكية الراهنة لمحادثات استعادة الاتفاق النووي الإيراني.
ورغم ذلك، لم يكن امتناع الإمارات عن التصويت في الأمم المتحدة ضد قرار إدانة الغزو الروسي مفاجأة للمتابعين عن كثب. بل أشارت الإمارات إلى “حق روسيا في ضمان أمنها القومي”. بل إن الولايات المتحدة تخشى ان تمضي دول الخليج في مساعدة روسيا على تجنب العقوبات الغربية.
مع تصاعد أزمة الطاقة العالمية، تصبح مسألة أوبك+ ذات أهمية متزايدة. حيث تحذر الوكالات الدولية من أزمة عميقة في إمدادات النفط، الأمر الذي سيدفع أسعار النفط إلى مستويات أعلى. وفي حين تحجم المملكة العربية السعودية والامارات عن دفع أوبك إلى ضخ المزيد من النفط، تشير مجمل المعطيات انهما يبتعدان سياسياً واستراتيجيا عن الغرب، وهو تحول يتماشى مع اتجاهات أوسع نطاقا في الخليج. لكن ما يجب ان نتذكره بداية، أن هذا البرود الغربي أصيل وليس وليد اليوم كما تجلى في جورجيا ثم سوريا والقرم. هكذا كانت أمريكا وفعلت في الحرب الأولى والثانية. أما الآن في أوكرانيا، فقد كانت غلطة الشاطر ووقع الفأس في الرأس.
وبخصوص اقتصاديات الطاقة تمضي الولايات المتحدة بشكل متسارع نحو الاستقلال التام في مواردها، وتكوين حوصلتها العولمية بين الأمريكيتين. وتعزيزا لهذا الاتجاه، من المرجح أن تعمد إلى إخراج سوقها بعيدا عن تداعيات ارتفاع الأسعار الدولي. فبالنظر لضعف شعبية إدارة بايدن، من المحتمل جدا أن يحظر أو يقيد صادرات النفط.
ومن جهتها، تواجه أوروبا أكبر تحد على المدى القصير، لذلك لا مناص لها من التوجه جنوبا، إلى فضائها الجيو-استراتيجي التاريخي ألا وهو، المتوسط وإفريقيا، من أجل تحويل مواردها نحو أوروبا بدلا من آسيا.
أما بوريس جونسون فسيكون عليه قريبا أن يختار بين أن يعيد النظر في سياسته المعارضة لاستخراج النفط الصخري في بريطانيا أو الانضمام لأوروبا في أزمتها المحيقة.
العقدة ستكون عند كبار المستهلكين في اليابان والهند والصين حيث سيكون الخليج هو بيت القصيد والصراع. وفي حين تسيطر الهند على أعالي البحار الآسيوية، فإنها تشعر انها مؤهلة عسكريا واقتصاديا وسياسيا للتعاطي مع الخليج، حيث تتمتع البحرية الهندية بقدرات كبيرة نسبياً.
وفي هذا السياق، يتوقع المراقبون ان يتعزز بالتالي التحالف الهندي الياباني الذي تشكل في تحالف القمة الرباعية مع أمريكا وأستراليا، حيث سيكون للبحرية اليابانية، التي تعتبر البحرية الثانية في العالم من حيث الحداثة والتكامل والقدرات النارية، دورا مركزياً.
إضافة لذلك لم تخضع حماقة بوتين، اوبيك + للاختبار فحسب، بل إنها تخضع للاختبار قدرات روسيا والصين في إيجاد نظام مدفوعات بديل للدولار. ومن جديد، سيكون للخليج موقع محوري في هذا الصراع أيضاً. فلقد عزلت العقوبات الغربية العديد من البنوك الروسية عن نظام المدفوعات الدولية “سويفت” وجمدت الاحتياطيات التي راكمها البنك المركزي الروسي، وتجدد في بعض دول الخليج النقاش حول مستقبل الاعتماد على الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية.
وفي هذا الصدد تبدو الولايات المتحدة واثقة تماما من مستقبل الدولار. فلقد حاولت مجموعة شانغهاي السير في هذه الطريق الوعرة وفشلت بشكل ذريع. وحاولت الصين منفردة، بل حاولت أوروبا بعد ذلك بكثير. وانتهت هذه المحاولات بفشل ذريع. لذلك وبعد كل المحاولات، لا يزال الإجماع واسعا بين الخبراء، ان لا بديل يذكر للدولار الأمريكي على المدى القصير إلى المتوسط على الأقل. فما لم ينقسم العالم نهائيا إلى عوالم متناحرة معزولة ومغلقة عن بعضها البعض، كما كان الأمر إبان الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر، لا يبدو أن ثمة أفق لتحقيق ذلك.
وفي حين يعاني اليوان من الدور التدخلي الإكراهي لقيادة الحزب الشيوعي الصيني، من حيث قيمته ومن حيث أسعار الفائدة المرتبطة به، يتعزز أكثر فأكثر انعدام الثقة في العملة الصينية.
أما الذهب الذي أثبت أنه مخزن آمن للقيمة، ولكن على الرغم من تآكل الأموال الورقية للحكومات، لم يتمكن الذهب من أن يصبح وسيلة دفع منتظمة.
وبالمقابل لا يزال اليورو يعاني من ضعف الوحدة السياسية والمالية لأوروبا. ويحذر كبار الاختصاصيين، أنه سيكون من السذاجة الاعتقاد أن العملة الالكترونية سيكون لها أية في مداورة العقوبات بعيدا عن سيطرة الدولة التي ولدتها وتديرها ألا وهي الولايات المتحدة.
حاولت بعض دول الخليج أن تتحول للدفع المباشر باليوان الصيني، لكن ذلك أثار ويثير الكثير من التساؤلات المالية والسياسية. ذلك أن عملاتها ذاتها لا تزال مرتبطة بالدولار بشكل وثيق، ويكفي أن ندرس عمق ومدى ارتباط نظام الائتمان والمال والنقد والمصارف في دول الخليج، بالنظام النقدي الدولاري، لنتصور المخاطر الكبيرة الناجمة عن أن تكون دول الخليج ساحة لهذه الحرب.
فبالرغم من حقيقة أن مظلة الدولار بعيدة تماما عن أن تكون مظلة مثالية، لكن الاعتماد على العملة الصينية التي تخضع لضوابط مالية وفساد متفش في الصين، الأمر الذي سيجعل عملات دول الخليج مكشوفة في جو عاصف تماماً.
وبالنسبة للخبراء تسقط الآن عمليا، وبشكل نهائي، فكرة أن العقوبات الغربية ضد روسيا ستدفع إلى تكوين كتلة تجارية منفصلة بقيادة الصين. وفي حين تدير الصين علاقاتها المالية الدولية، بالاستفادة الجوهرية من موثوقية المنظومة المالية للدولار كعملة احتياطية عالمية، ثمة تقدير راسخ لدى الخبراء، انه سيستحيل على روسيا ذاتها، وببساطة، استبدال تجارتها مع الغرب بالتجارة مع الصين.
ومع ذلك، فقبل رحلته ال “الصعبة” إلى الخليج، تعهد بوريس جونسون بأن العالم يجب أن “ينفطم عن إدمان بوتين على النفط والغاز”، مضيفا أن “السعودية والإمارات شريكان دوليان رئيسيان في هذا الجهد”.
وفي حين يعلمنا التاريخ أن طريق الحرير كان مصدر ازدهار مشهود للخليج، حيث كان يمر هذا الطريق بمدينة المليحة جنوب الجزيرة العربية، والتي لعبت في زمنها دور تقاطع الأسواق في الإقليم صعودا إلى أوروبا. وتمكنت دول الخليج آنذاك من تجنب الخوض في غمرة الصراعات بين إمارات الهان الصينية المنقسمة. وإذ يشير الوضع الراهن، إلى أن مستوى التحديات التي تنتصب الآن أمام الأمن القومي لدول الخليج بفضل تصادم هذه الطبقات التكتونية الدولية، يتوقع أن تقارب دول الخليج، الوضع الدولي بالكثير الكثير من الحذر. ذلك أن العوامل التي ولدت حالة الصدام الراهنة ستبقى معنا ولن تزول لعقد أو أكثر، وهي لن تزول حتما بعد بايدن ولا حتى بعد بوتين، أو شي جين بين، فعوامل الصراع أعمق وأبعد من ذلك بكثير.