الاستماع للمقال صوتياً
|
أسفرت اتفاقيات أبراهام للتطبيع الموقعة في عام 2020 عن نتائج سياسية ملموسة، وإن بدرجات متفاوتة، انعكست في خمسة مؤشرات: تبادل السفراء، واتفاقيات المتابعة ومذكرات التفاهم ذات الصلة، والرحلات الجوية المباشرة، والتجارة، والمشاركة في التدريبات العسكرية المشتركة.
كما نمت مؤشرات على تعاون عضوي في مجالات استراتيجية مرتبطة بالأمن القومي، سواء في مجال تطوير حقول الغاز في البحر المتوسط، أو التعاون في تصدير الطاقة، أو الموانئ، أو صناعات الطيران، أو التسليح. لكن عددا من التحولات الإقليمية والدولية تطرح الآن تساؤلات جدية حول مستقبل وأثر الاتفاقات مع تبدل صورة التحالفات المحيطة بالشرق الأوسط.
من أهم التحولات إثر التوقيع على اتفاقيات أبراهام هو انتخاب الرئيس بايدن. فعلى الرغم من دعمها للتحسن بين إسرائيل والعالم العربي، أبدت هذه الإدارة من البداية شكوكا حول الطريقة التي تم بها تأمين الاتفاقيات وما اعتبرته استبعاداً للشأن الفلسطيني، الأمر الذي أثار بدوره تساؤلات حول مدى التزام الإدارة الجديدة بصفقات الأسلحة والقرار بشأن الصحراء الغربية والتي تظهر الآن ملامح تعثره واضحة.
ورغم أن مسؤولين في إدارة بايدن قد أعلنوا منذ البداية أنهم يعتزمون الضغط من أجل التعاون الأمني بين إسرائيل والدول التي وافقت على التطبيع، لكنه لم يكن واضحا قط كم ستكون الولايات المتحدة مستعدة للاستثمار من أجل تعزيز عملية التقارب.
وكانت هذه الإدارة مهتمة بمعارك في ساحات أخرى. وكما عبر الرئيس بايدن منذ وصوله للبيت الأبيض، بأن المجابهة مع الأوليغارشية الروسية المحيطة ببوتين، تشكل أحد محاور الصراع. حيث لم يخف بايدن رؤيته أن هذه الطبقة المحيطة ببوتين قد تم تذخيرها عبر عدد من الشبكات الاقتصادية مختلفة لتهدد النموذج الليبرالي الديمقراطي الغربي. ولم تكن إدارة بايدن لترتاح لرؤية بعض دول الشرق الأوسط التي تعتبر نفسها حليفة لها، قد فتحت محاور وتحالفات مع روسيا.
وسرعان ما جاء الاختبار الحقيقي لاتفاقات أبراهام، من خلال انفجار دورة العنف بين الفلسطينيين وإسرائيل بعد تحريض المتطرفين اليمينيين الإسرائيليين في حي الشيخ جراح في أيار- مايو 2021. صحيح ان الاختبار كان محدودا، وصحيح أن الإدارة الأمريكية قد تمكنت من ضبط إيقاعه، لكن اقل ما يمكن أن يقال فيه أنه مهّد لسقوط نتانياهو من جهة، وتمكن من منح دور مركزي لكل من مصر والأردن في إدارة التهدئة.
لا شك أن إسرائيل كانت تراقب ردة فعل هذه الدول لتواصل غاراتها على غزة. وقد يكون صحيحا أن البعض كان يأمل أن تخرج حماس ضعيفة من هذه المعركة. لكن سرعان ما أصدرت الإمارات والبحرين والسودان والمغرب انتقادات علنية لإسرائيل لما وصفته بالاعتداء على حقوق الفلسطينيين وحرمة الأقصى.
يعكس هذا الواقع استمرار حساسية المعضلة الفلسطينية في الوضع السياسي والرأي العام الداخلي لهذه البلدان، خاصة بعد اتهامهم بالخيانة عند توقيعهم على اتفاقيات التطبيع. وتلى ذلك أيضاً تباطؤ مؤقت في الزخم في عدد من المبادرات الثنائية مع إسرائيل. وبالنظر إلى الأضرار الجسيمة التي لحقت بقطاع غزة، وتحت ضغط الرأي العام، أظهرت هذه البلدان العربية تدريجيا دعما أقوى للفلسطينيين، وحالت النهاية السريعة للتصعيد بين الطرفين دون تآكل الاتفاقات.
بل إنه، في خضم هذه الأحداث، كتب رئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني، رسالة إلى إسماعيل هنية أشاد فيها ب “انتصار” المنظمة على إسرائيل. وزار هنية المملكة للقاء شخصيات رفيعة المستوى داخل الحكومة وخارجها. ورغم ذلك لم يعبر النظام الملكي في المغرب عن رغبته في التراجع عما تحقق من اتفاقيات مع إسرائيل. لقد شكلت الرقصة المغربية الدبلوماسية مع حماس، تذكيراً غاية في الأهمية حول عدم قدرة هذه الدول على تجاهل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الأمر الذي يفتح احتمالات جدية بتدهور ما تحقق، في حال عودة المجابهات.
وأكثر من ذلك، أعطت هذه الأحداث الدول التي اختارت الجلوس على السياج، ولم تنضم إلى اتفاقيات أبراهام سببا إضافيا لتجنب التطبيع مع إسرائيل. وفي حين أن ثمة اعتقاد واسع بأن المملكة العربية السعودية لها تأثير كبير في السياسة الخارجية لكل من البحرين والإمارات، يمكننا أن نتصور أن المملكة تنفست الصعداء لرفضها الانضمام إلى الاتفاقيات، على الرغم من الضغوط الشديدة من إدارة ترامب، الأمر الذي وفر عليها انتقادات وصخبا في الشارع السعودي الحساس.
وبالمقابل أصيب السودانيون بخيبة أمل إزاء بطء وتيرة المساعدات الاقتصادية التي كانوا يأملون في تلقيها من الولايات المتحدة بعد توقيع الاتفاق مع إسرائيل، خاصة أن جولات أخرى من الاحتجاجات ضد الحكومة الانتقالية قد جمدت الأمور مع تل أبيب.
على الجبهات الخارجية، وبعد رحيل نتانياهو، سارع بوتين لإرسال دوريات روسية مشتركة مع طائرات نظام الأسد فوق الجولان، وتركت القوات الروسية الباب واسعاً لتموضع عميق للميليشيات الإيرانية جنوب سوريا، وأسقطت الصواريخ الروسية بعضا من صواريخ إسرائيل الموجهة ضد إيران. ومن جهة أخرى بالرغم من التصريحات الايجابية الكثيرة، لم تسلم التجهيزات والعتاد العسكري الأمريكي المطلوب والضروري لدول الخليج، لتحقيق الردع في مواجهة إيران، كما نقرأ محاولات الإدارة الأمريكية إعادة التوازن لعلاقاتها بين المغرب والجزائر. بل وتسير إدارة بايدن أيضاً بشكل متسارع نحو توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وترتب لرفع اسم الحرس الثوري الإيراني من قوائم الإرهاب. في حين لم تلتزم إيران نفسها بأي موقف تجاه استقرار المنطقة، بل هي تنظر بشغف لهذه اللوحة التي تفتح لها العديد من الفرص.
الانعطاف الأهم جاء نتيجة التداعيات الكبيرة للغزو الروسي لأوكرانيا على الإقليم. وإذ يتحالف الغرب بأسره لوضع روسيا خلف الستار الحديدي وإخراجها لسنوات من دائرة الاقتصاد العالمي، تقرع أبواب الأزمات الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة، من كوفيد إلى أزمة الغذاء، منبئة باضطراب جديد يمكن أن يصعد فيها التوتر الاجتماعي بشكل كبير. لذلك بالرغم من أن دول الشرق الأوسط لا تلعب أدوارا رئيسية في الأزمة الروسية الأوكرانية، إلا أنها تبقى في قلب العاصفة.
وعلى المدي القريب جدا، تقرع الأبواب أزمة وشيكة في الضفة الغربية والقطاع أيضاً. فمن يقرأ بدقة أحداث مايو 2021، يدرك نهاية سياسة إسرائيل ب “الحرب بين الحروب” مع الفلسطينيين أيضاً. ومع الرفض المعلن للحكومة إسرائيلية الراهنة لأي تفاوض ذي مغزى مع الفلسطينيين، لا يبدو أن الحكومة تملك أي استراتيجية بديلة غير القمع وإظهار القوة المفرطة.
هذا، في وقت يستمر فيه لابيد، وغانتس، وبينيت في لعبة كراس موسيقية بائسة، متسابقين على كرسي واحد لزعامة البلاد. ففي الوقت الذي كان فيه غانتس يحضر القمة في رام الله يعيد فيها فتح مستوى معينا من الحوار مع الفلسطينيين، كان بينيت ولابيد يعملان ضده من اجل صيغة مختلفة تماماً في قمة النقب. ومن فشل قمة النقب، إلى إحباط قمة رام الله، يظهر الاستعصاء الكبير في الموقف الإسرائيلي.
ثمة مؤشرات فاقعة بأن انفجار العنف بين الفلسطينيين وإسرائيل صار وشيكا ونوعيا، وفي هذه الحال، سيصعب من جديد على تل أبيب أن تفعل مع مواطنيها العرب ما تفعله مع الفلسطينيين في الضفة والقطاع. ولا يبدو هذه المرة أن الاحتقان في الوسط العربي سيتراجع ببضع مليارات من الشيكيلات ولا بزيادة فرص العمل.
لم تسر الأمور في العالم ولا في الإقليم كما اشتهى كوشنر. وفي حين تعززت بعض ملامح التطبيع والعلاقات الوثيقة بين دول اتفاقيات أبراهام، فإن بعضا من أهم دوافعه الجوهرية تتداعى وتتبدل بشكل سلبي. وفي مناخ الشرق الأوسط، وفوق رماله المتحركة تتعرض الاتفاقات لاختبارات جدية في القدرة على البقاء.
سيتطلب الأمر الكثير من الحكمة التاريخية والكثير من التواضع لفهم المخاطر الراهنة. ومن دون مقاربة تستند إلى فض متكامل للصراع بدلاً من قمعه تبقى كل المشاريع مهددة بل وعابرة في هذا الإقليم.