أبرز العناوينمقال الرأي

هل ينجح بايدن في إصلاح سياسته المأزومة تجاه الخليج والشرق الأوسط؟

د. سمير التقي

الاستماع للمقال صوتياً

ليس سراًً أن ثمة أزمة حقيقية بين إدارة بايدن وبعض الدول العربية ودول الخليج خاصة. من الخليج إلى مصر، والمغرب، يسود مناخ من الضبابية وعدم الثقة تجاه مقاصد الاستراتيجية الأمريكية. وكما في بداية الستينات، ينشأ من جديد خطر جدي أن تتحول الأزمة إلى انعطاف أوسع في المنطقة.وكما توضح تطورات العدوان الروسي الغاشم على أوكرانيا، فإن فكرة إدارة الظهر للشرق الأوسط التي تطفو موسميا في واشنطن، لم تكن أكثر مغامرة وضرراً منها اليوم.

لكن الافتراق بين التصريحات الأمريكية والنوايا المتصورة والأفعال العملية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط يولد يومياً شعوراً عاماً بالبلبلة بين شركاء واشنطن العرب. وإذ تخفف الولايات المتحدة من تواجدها البري في الإقليم، ينبغي على إدارة بايدن ان تفعل أكثر بكثير من مجرد الاتصالات الهاتفية لتعيد تنسيق علاقاتها في منطقة بهذا المستوى من التعقيد، بعيداً عن الكثير من شعارات الطفولية اليسارية التي تملأ الصحف الأمريكية حول الدول العربية.

فلئن كانت هذه الإدارة تعتقد أن أحد المسارات الأكثر إلحاحاً لمجابهة تذخير روسيا لاقتصاد الطاقة، تكمن في تأمين المصالح الأمريكية في هذه المنطقة وضمان مساهمتها في استقرار الاقتصاد وسوق الطاقة العالمي، فإن ذلك يتطلب منها مراجعة سياساتها،والاعتماد بشكل أكبر على الحلفاء والشركاء المحليين، بل ويتطلب بالضرورة أيضاً مراعاة حقيقية ومنصفة لمصالحهم ورؤيتهم لمتطلبات نموهم الاقتصادي وتقدمهم الاجتماعي واستقرارهم السياسي بإيقاعهم الخاص.

من الأهمية بمكان أن يكون لدى حلفاء الولايات المتحدة إحساس أوضح بأولويات واشنطن ونواياها. وفي غياب ذلك لا يمكن أن تلام هذه القوى الإقليمية الفاعلة في العالم العربي إن هي انتهجت سياسات تتعارض مع مصالح أميركا.

الخطوة الأولى لتجنب الحسابات الخاطئة من جانب حلفاء أميركا (وخصومها) تتلخص في تصحيح الرسائل. وسيكون من الهام جداً لإدارة بايدن أن تتفهم هذه الحاجة إلى الوضوح في الأولويات والمبادئ التي ترسم سياستها في الإقليم.

لكن، مثل كل مناطق العالم، في الشرق الأوسط، تبقى العلاقة بين المصالح القومية من جهة، والاستقرار السياسي من جهة أخرى، وبين مسارات التقدم السياسي والاجتماعي، من جهة أخرى أيضاً، علاقة جوهرية وحيوية. وهذه الحقائق تنطبق على الولايات المتحدة ذاتها.
وبعد عقدين من الترف الاستراتيجي واضطراب الأهداف، وعلى وقع القصف الروسي لأوكرانيا، تحاول الولايات المتحدة، على عجل، استرجاع مبادرتها الجيوستراتيجية في العالم وترتيب تحالفاتها. فمن فنزويلا إلى الهند والصين تعاود الدبلوماسية الامريكية، في عجالة، ترتيب أوراقها.

لكن، حين يتعلق الأمر بهذه المنطقة بالذات، تعود الأولويات لتضطرب وتطيش. إذ نجد أن الدبلوماسية الأمريكية لا تكتفي بالقفز فوق مصالحها الجيوستراتيجية، ولا فوق الاعتبارات الاقتصادية الأساسية لسياساتها تجاه الطاقة فحسب، بل ها هي تعود لتثير ذات العبث المتعلق بمحاولة رسم اتجاه الإصلاحات الداخلية في الدول العربية والخليجية، بما يعزز من جديد عمق الانطباع بازدواج المعايير الأمريكية.

وعلى سبيل المثال، ماذا تعني الآن مواجهة دعم إيران للإرهاب، والالتزام بالأمن الإسرائيلي والسعودي، والخليجي بشكل عام؟ فحين يطرح السؤال، يجري الحديث الغائم حول التركيز أكثر على الكيفية التي تعتزم بها واشنطن المضي قُدماً في صنع السياسات، ولا يجري حديث واضح عن الرؤية الإيجابية لماهية هذه السياسات.

إن ما يحتاج حلفاء الولايات المتحدة (وخصومها) إلى معرفته هو ما الذي ستقاتل أمريكا من أجله وما هي توقعاتها من حلفائها (وخصومها). وما هي الأهداف التي تأمل في تحقيقها للمنطقة في السنوات ال 10 إلى ال 15 المقبلة. حيث لا يبدو أن الإجراءات الأمريكية تتطابق مع النوايا.

وبالمقابل، يذكرنا استمرار العمليات القتالية الأمريكية في سوريا – بما في ذلك مقتل زعيم داعش والقتال الذي اندلع حول الهروب من سجن الصناعة بمثابة تذكير مؤثر بأن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة حتى عن إمكانية إنهاء تواجدها البري.

فما الذي تريد إدارة بايدن أن تفعله؟ وما الذي تعنيه الإدارة حين تقول “أن أمريكا لن تذهب إلى أي مكان”؟ هذه النقطة غاية في الأهمية الآن. فهل يعني تخفيض القوات تخفيض الالتزامات؟ تجاه الحلفاء في منطقة مشتعلة كالشرق الأوسط.

وحقيقة الأمر، فإنه بالنسبة لدول الخليج العربية يصعب التوفيق بين التصريحات القوية والصادقة مثل تصريحات وزير الدفاع لويد أوستن بأن “التزام أمريكا بالأمن في الشرق الأوسط قوي ومؤكد، مع ما يرونه ويسمعونه يومياً في واشنطن من تركيز حاد من الحزبين تجاه أزمات المنطقة. مما يطرح مجالا للاعتقاد أن هذه التصريحات قد تكون مخادعة.

مما لا شك فيه أن تعزيز التحالفات وتحديد الأهداف من خلال العناية الواجبة أمر حكيم. ولكن الأسئلة المتبقية هي على وجه التحديد كيفية القيام بذلك، وبأي شروط، وما الهدف الاستراتيجي من ذلك؟ إذ يمكن لما يقال عن “أساسيات التحالف والاستراتيجية” أن تعني أشياء مختلفة إلى حد كبير. هذا في حين تكثر التصريحات حول ما لن تفعله واشنطن، إلا أنها لا تقول سوى القليل عما ستفعله.

فنطاق الأهداف المحتملة الكامنة وراء هذه الشعارات المعلنة يجعل من الصعب على الشركاء تحديد ما هي بالضبط رؤية أمير للاستقرار والازدهار الإقليميين. ومن دوت ذلك، سوف يواجهون حوافز متزايدة للتحوط من الدعم من منافسي الولايات المتحدة.
وبالفعل، وبفضل هذا الغموض والترف الاستراتيجي الأمريكي حققت روسيا نجاحات ملحوظة مع شركاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تتجاوز موسكو قريبا النفوذ الأمريكي بين شركائها الحاليين، إلا أن المستوى الراهن للعلاقات يقلل بشكل ملموس نختبره الآن من فائض القوة الأمريكي.

بالغ بعض الشركاء المفترضين للولايات المتحدة، في تقدير التزام أميركا بتحالفاتها معهم، وكانت النتائج كارثية بالنسبة لهم والولايات المتحدة. هذا في حين يجهد الخصوم للاستهزاء بالتزام أميركا تجاه حلفائها، بل إنهم يحضرون للانخراط في تصعيد خطير. وبفضل هذا الغموض يعتقد خصوم أميركا بأن لديهم المبادرة لدفع نفوذهم إلى عمق المنطقة بأقل قدر من التكاليف. وما الارتفاع الأخير في الهجمات الصاروخية من الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وضد دول الخليج مباشرة إلا مجرد أمثلة لما هو قادم.

لا يوجد ما يشير إلى أن الرسائل الخاصة لإدارة بايدن تختلف عن رسائلها العامة، وهي متنافرة بالتعريف. وفي حين تحتاج الولايات المتحدة لبعض الوقت لتحقق الانعطاف اللازم للحاق بوعودها تجاه دول المنطقة فان الوضوح والالتزام يمكن أن يشتري الوقت الضروري لمنع المزيد من التدهور في موقف الولايات المتحدة في الإقليم.

إذا المطلوب هو اتباع نهج أكثر عمقا وشمولا إزاء النفوذ والمصالح الأمريكية في المنطقة. يفترض لهذا النهج ان يتضمن المزيد من المعايير الدبلوماسية والاقتصادية، لأن هذه هي بالضبط الطريقة التي يعتزم بها خصوم الولايات المتحدة منافستها بها.
يشكل غموض الرسائل والتوجهات، أحد أعراض التوترات المتأصلة في أهداف إدارة بايدن في المنطقة وخارجها. ومما لا شك فيه، أن وضع سياسة دقيقة بشكل صحيح، وخاصة في الشرق الأوسط، مهمة صعبة وضرورية تستحق الإدارة الأمريكية الفضل في محاولتها معالجتها.

وتأتي الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء البريطاني للمملكة العربية السعودية لتأكيد مستوى الأزمة ومستوى الحاجة الأمريكية لتدبيرها. إذ ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة يمكنها، بل وينبغي لها، أن تعيد معايرة نهجها تجاه الشرق الأوسط، لتعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة.

ولكن من دون فهم واضح لما تأمل أمريكا في تحقيقه في المنطقة ومن دون تفهم لهواجس والمخاطر التي تواجهها دول الإقليم، لا يمتلك بوريس جونسون الكثير مما يتفاوض عليه، في حين ان من المرجح أن يتحدى وخصوم أمريكا حدود الدعم الأميركي ويختبروه بطرق خطرة.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى