اللجنة الدستورية نافذة في الضائقة السياسية السورية
من هو "غير بيدرسن" المبعوث الأممي للملف السوري؟
الاستماع للمقال صوتياً
|
خاص وايتهاوس ان أرابيك
غير بيدرسن، المبعوث الأممي للملف السوري
من هو غير بيدرسن الذي أنيط به الملف السوري في مرحلة استحقاقات سياسية هي الأكثر تعقيداً في السنوات العشر الأخيرة التي مرّت على سوريا، وحيث فشل أسلافه في إيجاد ولو بصيص ضوء في العملية السياسية المتوقفة بعد تسع جولات في جنيف بين مؤسسات المعارضة السورية من طرف، والنظام من طرف آخر؟
تمّ تعيين غير بيدرسن مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة في سوريا ليحمل الرقم أربعة في ترتيب المبعوثين الأممين للملف السوري متسلّماً الملف السوري من خلفه، ستيفان ديمستورا، الذي غادر منصبه معترفاً بدرجة تعقد الحالة السورية تبعاً للتداخلات الدولية فيها وتضارب المصالح على مواقع النفوذ بعد حرب مدمرة دامت لسنوات استطاع فيها النظام أن يحافظ على كرسيّه في دمشق بدعم عسكري وسياسي ودبلوماسي مباشر من موسكو، وبتحالف معلن مع ميليشيات إيرانية، موصومة بالإرهاب العابر للحدود.
تولى بيدرسن مهامه رسمياً في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني/نوفمبر للعام 2018 بعد تقديم ديمستورا استقالته إثر أن اصطدمت كل مساعيه بحائط النظام المسدود، مضافاً إليه الشد والجذب الذي كان يتعرّض له كل عنوان من عناوين الملف من الدول صاحبة النفوذ على الأرض السورية. وهذه هي المرة الثانية الذي يتسلّم فيها الدبلوماسي العريق بيدرسن ملفاً ساخناً في الشرق الأوسط من زميله ديمستورا؛ ففي العام 2005 خلفه موفداً للأمم المتحدة في جنوب لبنان، ثم أصبح بين العامين 2007-2008 المبعوث الأممي الخاص للبنان.
غير بيدرسنهو دبلوماسي مخضرم من النرويج، كان قد شارك في العام 1993 ضمن فريق بلده النرويجي في جولات المفاوضات غير المعلنة في ذلك الوقت بين الاسرائيليين والفلسطينيين، والتي أفضت عن التوصّل إلى ما اصطُلح على تسميته ب “اتفاقية أوسلو” بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيل؛ وأمضى إثر تلك الاتفاقية عدة سنوات ممثلاً لبلاده النرويج لدى السلطة الفلسطينية. أما آخر منصب شغله قبل تعيينه مبعوثاً خاصاً لسوريا فكان سفير النرويج إلى الصين. وكان الأمين العام للأمم المتحدة قد قال لمجلس الأمن حين أعرب عن رغبته في تعيين بيدرسن خلفاً لديمستورا: “سيدعم مرشحي بيدرسن الأطراف السورية عبر تسهيل التوصّل لحلّ سياسيّ شامل وجدير بالثقّة يحقّق تطلّعات الشعب السوري”.
الجدير بالذكر أن غير بيدرسن يجيد اللغة العربية وهو أب لخمسة أولاد. وقال عنه وزير الخارجية النرويجي، إيني اريكسن، حال تعيينه مبعوثاً خاصاً لسوريا :”غير بيدرسن هو واحد من أفضل الدبلوماسيين”.
كرة الصوف السوريّة
مما لا ريب فيه أن بيدرسن يصل إلى الضفة السورية في مرحلة استحقاقات سورية داخلية، ودولية وأممية أيضاً. ففي سوريا تم التجديد لولاية بشار الأسد والبلد شبه مهشّم، وملايين السورييين هاجروا أو نزخوا، ومئات الآلاف منهم في المعتقلات. وقد أوقعت الحرب التي شنّها النظام السوري وحلفاؤه على الشعب السوري ما يزيد على نصف مليون شهيد، وتعقّدت المعضلة السورية بشكل كبير إثر ظهور المجموعات الدينية المتطرفة منها والإرهابية، هذا ناهيك عن تضارب المصالح للدول ذات النفوذ على الأرض والتي تحاول في ما يشبه بدائرة الطباشير القوقازية شد سوريا كل إلى جهته دونما الاكتراث لمصلحة هذا الشعب الذي عانى ما عاناه من الاستبداد والقمع والإفقار على مدى نصف قرن انتهت بحرب طاحنة دمرت النفوس قبل تدميرها للبنى التحتية والفوقية، وتمزيقها الروابط المجتمعية والإنسانية بين أبناء البلد الواحد.
إلا أن تلك الاستحقاقات كانت أيضاً سبباً في التوصّل إلى توافقات مبدأية بين الدولتين الكبريين روسيا والولايات المتحدة تجلّت في إعلان قمة أنقرة، التي حضرها الرؤساء الثلاثة بوتين وأردوغان وروحاني، عن اقتراب بيدرسن من الإعلان عن اللجنة الدستورية بعد تذليل معظم العقبات التي كانت تعترض طريقها. وكان أعظم تلك العقبات هو التنافر بين موسكو وواشنطن لاسيما حول التعامل مع المد الإيراني الذي تريد الولايات المتحدة إنهاءه في سوريا، في حين تتمترس موسكو في الضفة الإيرانية إذ تشكل طهران أحد أضلع مثلث الضامنين الثلاثة لمؤتمرات آستانا بالنسبة لترتيبات الميدان العسكرية كما تراها روسيا.
إلا أنه، وبالرغم من تغاير المصالح وافتراق الأهداف بين موسكو وواشنطن بالشأن السوري، فهناك ثوابت معينة لا يمكن للطرفين الروسي والأميركي التراجع عنها البتة لأنها مرتبطة بالقرارات الدولية، وغطائها الأمم المتحدة. فلا رجعة عن تحقيق الانتقال السياسي وتهيئة الأجواء لكتابة دستور جديد لسوريا يضمن تحقيق ثوابت الثورة التي دفع الشعب السوري ثمنها غالياً جداً فداء لها. لكن الخلاف يبقى قائماً في رؤية وقراءة واجتهادات كل طرف من الدولتين العظميين حول كيفية تنفيذ هذه القرارات وفي مقدمتها القرار 2254 وكذلك مبادئ وثيقة الرياض 2. ولم يكن الضغط الشديد الذي مورس على النظام السوري لوقف التعقيدات التي يتفنن في اختراعها من أجل تعليق إطلاق اللجنة الدستورية إلا إشارة إلى الدور الأميركي الذي يتصاعد لدعم العملية السياسية ابتداء من جنيف، وضمن مظلة الأمم المتحدة، وكذا دعماً لبيدرسن من أجل المضي في مهمته التي كانت مستحيلة على أسلافه الأربعة بسبب غياب الإرادة الدولية بإيجاد حل عادل للمسألة السورية. وقد وصف أحد المسؤولين الأميركيين المتخصصين بقضايا الشرق الأوسط المعضلة السورية بأنها أشبه بما يدعى بالمصطلح الأميركي “غورديان ناط” ويعني التعبير بالعربية كرة الصوف المتشابكة الخيوط والتي كلما تم السيطرة على مسار أحد خيوطها علقت المحاولة في استعصاء الخيط التالي! فهل سيملك بيدرسن اليدين الاستثنائيتين لفك عقدة هذه الكرة؟!
ماذا يريد السوريون من الدستور الجديد
يعتبر إطلاق اللجنة الدستورية بإعلان صرح به الأمين العام غوتيريث في اليوم الأول من افتتاح الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة بعد التشاور مع بيدرسن نصراً دبلوماسياً يحققه السيد بيدرسن حين فشل آخرون. ومما لا شك فيه أن هذه اللجنة ستفتح بوابة متواضعة في مساحة الضائقة السياسية السورية التي تمر بها العملية السياسية الانتقالية التي تبنتها الأمم المتحدة مستندة إلى قرارات مجلس الأمن المرعية. وبمجرد انطلاق اللجنة على سكة جنيف قريباً فإن هذا سيعني أن الخطوة الأولى من مسيرة الانتقال السياسي إلى الدولة السورية الجديدة قد بدأت ولا رجعة فيها، وأن حكومة بشار الأسد قد غدت قانونياً – كما أفاد أحد القانونيين المتخصصين في اللجنة الدستورية – حكومة لتصريف الأعمال حتى يتم إطلاق دستور جديد للبلاد”.
أما المعارضة السورية بمجموعتها المشكلة من 50 خبيرة وخبير قانوني وسياسي من الشخصيات الوطنية السورية بترشيح من هيئة التفاوض، فقد اشتعلت على مسودات لدساتير متعددة حسب عدة نماذج من أنظمة الحكم التي سيتم استفتاء الشعب السوري عليها، فهو وحده من يقرر مصيره ومستقبل دولته الجديدة. وقدمت اللجان المختصة أوراقها للسيد بيدرسن لتكون جاهزة للعمل فور انطلاق أعمال اللجنة في شهر تشرين الأول/ أوكتوبر القادم.
أما جوهر المضامين الدستورية التي تكفل تحقيق أهداف الثورة السورية الماجدة التي عُمّدت بدم أهلها، فهي ثوابت لا يمكن التراجع عنها، ولها صقور من المعارضة تقوم بحراستها، وهي تصب في الأهداف التي حددتها الأمم المتحدة وسيعمل الدستور الجديد على تثبيتها ثم طرحها للاستفتاء الشعبي العام.
فالشعب السوري متمسّك بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وسيادة الدولة على كامل أراضيها على أساس مبدأ اللامركزية الإدارية. والشعب السوري ملتزم بالتأسيس لنظام حكم ديمقراطي تعدّدي مدني يثريه تنوّع النسيج الاجتماعي السوري، وذلك ضمن دولة تحترم المواثيق الدولية وتحتفي بالحريّات العامة وتقرّ شرعة حقوق الإنسان العالمية في إطار وحدة جغرافية سياسية ذات سيادة كاملة تعتمد مبدأ المواطنة المتساوية، ونظام حكم يمثّل كافة أطياف الشعب السوري من دون تمييز أو إقصاء على أساس ديني أو طائفي أو قومي أو جنسي، بل يرتكز إلى مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة وسيادة القانون.
والشعب السوري يريدها دولة تنهج التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع السرّي والمباشر للشعب السوري؛ ويريدها دولة تحترم وترعى حقوق الإنسان والحريات العامة، ولا سيما في أوقات الأزمات.
والشعب السوري يرى سوريا دولةً متعدّدة القوميات والثقافات، يقرّ دستورها بحقوق المكونات القومية كافة، وبامتياز ثقافاتهم ولغاتهم على أنها لغات وثقافات وطنية تمثّل خلاصة تاريخ سوريا وحضارتها؛ كما يراها دولة المواطنة واحترام كرامة المواطن ومعتقده، تتساوى فيها الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وتضمن قوانينها التمثيل النسائي المتكافئ ومشاركتهن في المؤسسات وهياكل صنع القرار، مع وضع الآليات الهادفة إلى تحقيق مستوى تمثيل لا يقل عن 30% للنساء في الهيئات السياسية والمناصب العليا، وإقرار حق المرأة في الترشّح إلى موقع رئاسة الجمهورية.
ويفترض أن يصير الإنجاز السياسي المبكر لبيدرسن في السنة الأولى لولايته عاملاً محفزاً له ولفريقه في العمل سريعاً- بالتوازي مع إطلاق اللجنة الدستورية – على أهم بنود بناء الثقة وهو الإفراج عن المعتقلات والمعتقلين من سجناء الرأي، ومعرفة مصير المفقودين، وإنهاء عهود الاعتقال السياسي المظلمة من الحياة السورية وإلى الأبد، والقطع مع النظام الأمني والمخابراتي الموجّه لقمع الإنسان السوري لا لحمايته كما يُفترض بمهمة رجال الأمن في دولة القانون.