الاستماع للمقال صوتياً
|
من أجل أن تَلحق بركب الدول الأوروبية الرائدة في دعم مشاركة المرأة في الحياة العامة وتمكين موقعها في مضماري السياسية والأعمال وفي مقدمتها الدولة الفرنسية، أعلنت وزيرة العائلة في ألمانيا الاتحادية العام 2020، فرانسيسكا غيفي، “أن الاستراتيجية الوطنية لدولتها قد حدّدت أهدافاً ملزِمة لكافّة الوزارات في رفع نسب تمثيل النساء في الأعمال والسياسة والعمل على ردم الهوة في قيمة الرواتب بين المرأة والرجل”.
وقد أظهر حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي المحافظ بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل، اهتماماً لافتاً بهذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ الحكومات الفيدرالية المتعاقبة وقد أُقرّت بإجماع حكومي، حيث أعلنت رئيسة الحزب، أنغريت كارنباور، تحديد حصص ملزمة (كوتا) تفرض استحواذ النساء على ما لا يقل عن 50% من المناصب السياسية والإدارية بحلول العام 2025.
ووفقاً لمؤشر المعهد الأوروبي للمساواة بين الرجل والمرأة في احصاءاته للعام 2019، فإن ألمانيا تبدو في موقع منخفض نسبياً على منسوب المساواة بين الجنسين على الخارطة الأوروبية، رغم أن امرأة قوية واستثنائية احتلت وبجدارة موقع المستشارة في الدولة منذ 15 عاماً.
إذا كان هذا هو الحال في دولة أوروبية كبرى كانت تديرها امرأة هي فارقة في تاريخ حكم النساء في العالم من غيابٍ لفرص المرأة في العمل السياسي والشأن العام، فكيف سيبدو الأمر في دول خارجة حديثاً من النظم الشمولية، أو في دول مازالت تناضل من أجل الخروج الكبير إلى عوالم الديمقراطية والحريّات وممارسة الحقوق الإنسانية كحال العديد من دول الشرق الأوسط مثل اليمن والعراق ومصر وسوريا؟
في دراسة صدرت حديثاً عن جامعة جورجتاون حول المشاركة السياسية للمرأة أعدّتها الباحثة الأميركية من أصول سورية، جمانة قدور، وتشغل حالياً موقع عضو اللجنة الدستورية السورية عن المجتمع المدني، أقتطف: “هناك نساء يردن إحداث تغيير سياسي حقيقي لكن غالباً ما يصطدمن بالنظم السياسية المعمول بها والتي غالباً ما تعيق استقلالهن وقدرتهن على العمل كجهة سياسية اعتبارية”. وعن الحال في سوريا كنموذج اعتمدته الباحثة قدور في دراستها، تفيد: “أهم العوائق التي تعترض مشاركة النساء السياسية في سوريا هو التمييز ضد المرأة في القوانين ولاسيما قوانين الأحوال الشخصية، ناهيك عن كون حزب البعث الحاكم يدفع إلى المقدمة بالنساء اللواتي يخدمن أجندة الحزب والنظام، بينما تُقصى المستقلات اللواتي يبحثن عن التغيير الجذري؛ علماً أن الإقصاء هو عملية منهجية تطال الرجال والنساء معاً في المجتمع السوري الذي يتمتّع الآن بفرصة نادرة للتغيير الحقيقي ما بعد الحرب حيث يفترض أن تحتل السيدات موقعاً لائقاً في الواجهة السياسية من المرحلة الانتقالية وليس المقاعد الخلفية وحسب”.
لم تكن مشاركة المرأة السورية في العمل السياسي المستقل، وعلى مستوى القيادات، بحديثة العهد، ولم تأت كمنحة سياسية سخيّة من المجتمع الدولي وضغط من أممه المتحدة على ما يشاع، بل هي شاركت بإرادة وطنية خالصة في دفع عجلة التغيير السياسي الديمقراطي حتى ما قبل ثورة آذار 2011؛ وجميعنا يعلم أن أول تنظيم حقيقي وواسع شاركت فيه المرأة بقوة، هو إعلان دمشق، وكانت السيدة فداء الحوراني هي من ترأس المجلس الوطني للإعلان ما أدى إلى اعتقالها لمدة ثلاث سنوات ويزيد، وهو الثمن الباهظ الذي دفعته لقاء قيادتها الهذا التكتّل السياسي الهام الذي زرع البذرة الأولى لحراك ما بعد العام 2004، ما مهّد لقيام الثورة السورية الماجدة.
لكن، وإثر تقدّم فصول الثورة واحتدام أوارها، شهد العمل السياسي خطوات عكسية وتراجعاً دراماتيكياً في التمثيل النسائي، ما شكّل إحباطاً كبيراً في الشارع السوري والرأي العام الدولي في آن. فالمرأة السورية هي من دفع الثمن الأعلى قهراً وتنكيلاً واعتقالاً وثكلاً ويتماً وترملاً وشهادة، إلا أن صوتها بدأ يتلاشى في الهيئات المتعاقبة التي أسّست لها المعارضة السورية، وبشكل لافت ومقلق. وقد يعود السبب الرئيس لهذا الغياب هو تقدّم الحل العسكري والعمليات الميدانية على الحراك المدني السلمي وما تنازر عنه من انحراف في المسار الثوري لجهة فئات متطرفة حاولت ولا تزال أن تسحب البساط من تحت أقدام المعارضة المعتدلة وتقصي مكونات بعينها من العمل السياسي وفي مقدمة قوائمها الردعية تقع المرأة السورية.
من نافلة القول أن خروج السوريين نساء ورجالاً جاء ضد استبدادين واحدهما سياسي والثاني ديني. أما الاستبداد الديني فقد تجلّى في ظاهرة القراءات المتطرّفة لنصوص الإسلام الحنيف، وفي تغييب مفتعل لطابع الاعتدال في أحكامه وتشريعاته -الاعتدال الذي هو صفة الإسلام الشامي لمئات من السنين خلت؛ في ظل مناخ الاعتدال هذا كانت المرأة منذ أعوام الهجرة النبوية الأولى صاحبة دور أصيل وفعال في الحياة الاجتماعية والسياسية والأكاديمية وحتى الاقتصادية. أما الظلامية التي تجوب المنطقة منذ بعض من عقود ولمّا تزل، فهي حالة طارئة وعارضة في طريقها إلى زوال حالها حال غيمة صيف داكنة، وستعود المرأة السورية لتسهم في بناء الدولة المدنية التعددية التي يتساوى فيها الرجل والمرأة تحت مظلة المواطنة ودولة القانون.
لذا، كان لابدّ من أن ترافَق الثورات السياسية بأخرى ثقافية انقلابية على الراكد السلطوي، ثورة ثقافية هي الرديف والرافد للثورات السياسية على ألوان الاستبداد، حيث التحرّر السياسي المرتجى لا يستوي إلا موازاةً بتيار من التغيير المجتمعي ينقلب على كل مثبّطات التغيير وفي مقدّمتها تغييب شراكة المرأة في الحياة العامة. كما لا بدّ للدستور القادم الذي يقرّه الشعب السوري في سوريا الجديدة، ولمجموعة القوانين الديمقراطية التي ستنبثق عنه، أن تؤكد على حرية المرأة ومراعاة خصوصيتها واحترام كيانها وفكرها وعواطفها، وتضمينها في القوانين والتشريعات كافة، وتمكينها عن طريق تفعيل الأدوات والمؤسسات الموازية وإنشاء الروادع القانونية والعقابية لكل من يستمر في الاعتداء على هذه الحقوق تحت أي مبرّر. كما يجب أن ينص الدستور القادم على حق المرأة في العمل السياسي، والشراكة في مواقع القرار العليا من خلال الترشّح لشغل أي منصب في الدولة بما فيها منصب الرئاسة والوزارات السيادية فضلاً عن ضمان مشاركة المرأة في المحافل الدولية، وفي لجان التفاوض والمصالحة والسلم الأهلي.
وليطمئن قلبنا نحن السوريات، أذكّر في هذا المقام أن المرأة في أعتى الديمقراطيات الولايات المتحدة الأميركية، لم تحصل على حقها في التصويت حتى العام 1920، ولم تتقلد مناصب سياسية عُليا إلا في بداية الثلاثينات، وهي ما زالت تعاني تمييزاَ إذا ما أبدت منافسة للرجل فيما يَعتبره ميداناً حكراً عليه وفي مقدمته العمل السياسي، ومعدل رواتب المديرات التنفيذيات في الولايات المتحدة هو أقل 40% للمرأة منه للرجل في المنصب نفسه والخبرة المهنية ذاتها.
فصل المقال أن المرأة التي تشكّل عددياً نصف المجتمعات ويزيد معنية ببنائها تماماً كما الرجل، وأن غيابها هو تعطيل لطاقات نصف المجتمع، ما يجعله يسير بقدم واحدة ويحيله إلى موقع أصحاب الحاجات الخاصة في مضمار تسابق المجتمعات العالمية نحو التنمية التي لايمكن أن تكتمل إلا بمشاركة واعية لتلك القوة الناعمة وإسهامها في البناء الهرمي لمجتمعها بدءاً بقاعدته وتدرّجاً نحو سدّة القيادة، ودونما حرج.