مقال الرأي

بحسرة وخيبة تنظر الصين لمغامرة بوتين

د. سمير التقي

الاستماع للمقال صوتياً

بعكس التوقعات المستعجلة ومسبقة الصنع، فإن غزو أوكرانيا مصدر إحراج وخيبة للصين حتى على الصعيد التكتيكي لأنها وحدت وعززت بشكل منقطع النظير تحالفات وقوة منافستها الاستراتيجية الولايات المتحدة.

لا شك أن روسيا هي شريك للصين، لكنه شريك ثانوي، يفقد أهميته مع كل خطأ استراتيجي ترتكبه القيادة الروسية.

القيمة الاستراتيجية المركزية لروسيا بالنسبة للصين، ليست في مصادر الطاقة،التي تحصل وستحصل عليها الصين مع روسيا أو بدونها.

الأهمية المركزية لروسيا بالنسبة للصين هي في احتمال كونها جسرا استراتيجيا نحو أوروبا. ولقد كسر بوتين هذا الجسر بشكل أرعن. صحيح أن روسيا تتشارك مع الصين في الكثير من المشاغل والهموم بخصوص قمع الحريات، وكبح حرية المعلومات، ومقاومة العقوبات ومواجهة قوة الدولار، لكن هذه لا تعدو أن تكون تعاطفات تتجلى هنا وهناك في المحافل الدولية. على أن هذه المواقف لا تعكس في حال من الأحوال المقومات العميقة للرؤية الاستراتيجية للعالم، لا بالنسبة للصين، ولا لغيرها من الدول.

حقيقة الأمر أن روسيا بعد أوكرانيا لن تكون حليفا ثانويا للصين، بل ستكون حليفا ثالثياً وربما أكثر، بحسب التطور اللاحق للأمور وذلك لأسباب عديدة. فلقد ضربت روسيا عرض الحائط بعدد من الأسس التي تشكل الاعتبارات المؤسسة لرؤية الصين للعالم. ومنذ منذ العملية التفاوضية لاستلام هونغ كونغ، كان واضحا أن المصالح الجوهرية للصين تستند برسوخ على مفهوم السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية وعدم التدخل بعنف في البلدان الأخرى.

الأهم من ذلك أن الصينيين كانوا ولا زالوا يذهلون مما يفعله الزعماء الروس ببلادهم روسيا. فلطالما كان الصينيون أكثر مهارة وحصافة في صبرهم وأقل عنفا وعقائدية وتعصبا في رؤيتهم وعلاقاتهم ودورهم الإقليمي.
وحين ينظر القادة الصينيون للوراء إلى حقبة بريجنيف فإنهم ينظرون لفشله الذريع في التنمية وتجديد شباب الشيوعية، وحين يرون كيف تدحرج غورباتشوف ثم يلتسين نحو تفكيك الاتحاد السوفياتي، فإنهم يجدون صعوبة كبيرة في النزول بحبل بوتين، الزعيم الروسي الرابع الذي يغامر ببلاده بتعسف منقطع النظير ويرتكب أخطاء ذات أبعاد كونية تصيب بشظاياها المؤلمة الصين ذاتها ولفترة طويلة.

تفيد المعطيات الواردة من الصين، أنها تدرس بعمق ما يحدث في الميدان. لكنهم يدرسون الآن بعناية فائقة جدا، هذا الجيل الجديد من العقوبات الذي استلمته الولايات المتحدة وأوروبا لتصبح العقوبات سلاحا يخرج الدول من العولمة في سياق توجه غربي حثيث وعام لتقطيع أو “حوصلة” نظام العولمة فيما يسمى الآن بال Deglobalization. إذ لم يسبق للغرب أن تضافر في جيل جديد من العقوبات بهذا القدر من الأحكام والخطر.

لذلك من الآمن أن نقول إن غزو تايوان بات الآن أقل احتمالا في المستقبل القريب، في وقت يتابع الصينيون باهتمام بالغ بقدر وبإحراج حسرة عمقين، تهور وتدهور حليفهم الأصغر روسيا، في سياق تنافسهم الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

لا ينقص الصين الشعور بالعظمة، فهي أمة ناضجة وفهيمة، وهي ترى، بذات القدر، أن تاريخ ازدهارها يكمن في حكمة رؤيتها، بقدر بعدها عن المغامرة بمصالحها تحت أوهام الغطرسة.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى