الاستماع للمقال صوتياً
|
نقلت جريدة معاريف الإسرائيلية عن مسؤول سعودي رفيع المستوى تصريحا يقول فيه إن “دمج إسرائيل في المنطقة سيعود بفائدة عظيمة ليس فقط على إسرائيل نفسها، بل على كل المنطقة، لكن من دون معالجة القضايا الجوهرية للشعب الفلسطيني ومنح الاحترام والسيادة للشعب الفلسطيني عبر إقامة دولة فلسطينية، فإن عدم الاستقرار والمخاطر ستستمر على أمن إسرائيل وأمن المنطقة كلها. في وضع كهذا ستتعزز الأصوات المتطرفة في المنطقة أكثر”. وبحسب الصحيفة فلقد قال الوزير السعودي إن “السعودية تنتظر الأمر في إطار تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، أو على الأقل أن يناقش الطرفان خطة للتسوية يمكن تطبيقها”. ونقلت الصحيفة الإسرائيلية عن المسؤول السعودي أن “الأولوية الآن هي لإيجاد تسوية كي يجلس الإسرائيليون والفلسطينيون معاً، وكي يكون لديهم عملية سلام يمكن العمل وفقها”، معتبراً أن “هذا سيسهل على كل الدول التي ليس لديها حتى الآن علاقات مع إسرائيل”، وأن “هذا سيحصل عند إيجاد حل عادل للموضوع الفلسطيني”.
تأتي هذه التصريحات في لحظات يتعرض فيها الشرق الأوسط لتداعيات وتبدلات استراتيجية عميقة. وتستجيب المملكة السعودية لهذه التبدلات، عبر جملة من المبادرات التي تظهر فيها المملكة سياسة خارجية أكثر مبادرة في إطار تصور محدد لدورها الإقليمي.
فبعد الجولة الخليجية للأمير محمد بن سلمان وتصفية عدد من نقاط الاختلاف وتأسيس توافقات بين دوله، بما في ذلك قطر وعمان، عقدت قمة العلا لدول مجلس التعاون، وتم جسر الهوة مع تركيا، وأطلقت عدة مبادرات سياسية تجاه فرنسا والهند الخ..
بالنسبة لمن يراقب تطور المبادرة الاستراتيجية السعودية، يشكل التصريح السعودي حول آفاق السلام مع إسرائيل، نقطة علام ملفتة في هذا التوجه المتوقع والمثير في ذات الوقت.
دول الخليج الحريصة على تجنب المواجهة العسكرية مع طهران، لم تخف أصلا قلقها بعد الإحياء المحتمل للاتفاق النووي ومن حقيقة استفادة إيران من تحرير أموالها في توسيع دعمها للجماعات المسلحة في أنحاء المنطقة، والذين زودتهم أصلاً بترسانات خطرة من الأسلحة تضع المنطقة بأسرها بما فيها إسرائيل على شفى حرب دائمة.
لقد حملت الأشهر الأخيرة مؤشرات على تبدلات عميقة في الاستراتيجية السعودية. فما هي الخلفية وما هو المغزى؟
من جهة، تتجه الولايات المتحدة بشكل أكثر ثباتا لتقليص تواجدها الفيزيائي البري في المنطقة. وهي إن كانت لا تزال تحتفظ بدورها البحري وتنميه، فإن انفكاكها هذا يطلق تفاعلات متسلسلة تتردد في أرجائها ُيعيد تصنيف الأوراق وتشكيل التحالفات ليصبح ضمان التوازن الذاتي للأمن والسلام للإقليم من قبل أهله وساكنيه مهمة في غاية التعقيد.
كما أوضح العقدان الماضيان، فلقد فشلت دول إقليمية قريبة او بعيدة في ملء الفراغ الناجم عن تراجع المحور المصري العراقي السوري، بل فشلت بشكل ذريع في تحقيق نموذج بناء ومستقر، للمنظومة الإقليمية كما تجلى الأمر في كل من سواء في العراق ولا في سوريا ولا حتى في لبنان.
بعيد انهيار منظومة الحرب الباردة، بدت الولايات المتحدة، هي الضابط الأوحد للإيقاع في الإقليم، وبعد أن بدى ان إسرائيل تستطيع في المدى البعيد ان تعتمد على استمرار هذا الدور. لكن ما لبثت الأمور ان تبدلت ونشأت مخاطر جديدة. وتطلبت هذه المخاطر أن تمضي الولايات المتحدة بعيدا في انفكاكها البري عن الإقليم، ولم تلبث عادت من جديد لإحياء الاتفاق النووي الإيراني بالرغم مما يثيره ذلك من احتمالات المخاطر الحيوية بالنسبة لإسرائيل والإقليم بشكل عام.
وثم على التوازي من ذلك، وللحظة ما، بدت التفاهمات التكتيكية مع روسيا حول ضبط الوجود الإيراني في سوريا متينة ومستقرة شبه دائمة. فلقد سمحت بأن تبقى مخاطر الوجود الإيراني مجرد مخاطر طرية بالنسبة لإسرائيل، وان تبقى إسرائيل قادرة على التعاطي معها من خلال تكتيك الحرب ما بين الحروب، لتبقى مناوشات قص العشب الإيراني في سوريا مضبوطة بالتوافقات الروسية الاسرائيلية.
بالنسبة لدول الخليج لم تكن هذه الاستراتيجية تشكل اساساً يعول عليه. فمخاطر التهديد والتوسع الإيراني، هي ابعد بكثير، بالنسبة لهم، من أن تدار بتكتيكات “الحرب بين الحروب”، أو ب “قص العشب”، الامر الذي لا يشكل بالنسبة لها مكسبا كبيرا يعتد به، مقارنة بحجم التهديدات. وهو أمر يبدو إسرائيل بدورها قد بدأت تلمسه.
إذ لم يلبث أن ثبت، بحق، ان هذا التكتيك قصير النظر، بل وضار بمصلحة إسرائيل. وكما تبرهن الأحداث، يبدو أن التفاهمات الاسرائيلية مع روسيا لم تعد ذات موثوقية، في حين يتوقع أن تنتقل إيران نحو المزيد من التصعيد في الإقليم بعد التوقيع المحتمل على الاتفاق النووي، في وقت لا يبدو أن إسرائيل قد تمكنت من ترسيخ العديد من إنجازاتها الدبلوماسية الإقليمية لتحولها إلى رصيد استراتيجي راسخ.
إضافة إلى ذلك، تجد إسرائيل نفسها، في وضع جديد تماماً، وكما لم يسبق لها قط في الماضي، في هذا الإقليم العاصف. إذ كان يمكن لإسرائيل في الماضي أن تمارس سياسات انتقائية تلتقط ما يمكن كسبه دون تورط مباشر. لكن لم تبق مصلحة إسرائيل أن تبقى استراتيجيا خارجه ضمن السياقات الراهنة.
هذا ما عبر عنه وزير خارجيتها حين نوه بحلف إقليمي يشبه حلف الأطلسي. ذلك أن انهيار البنية الاستراتيجية للإقليم يلحق ضرراً جوهريا بمصالحها. ويدرك وزير الخارجية الإسرائيلي كما يدرك العديد من الخبراء في إسرائيل وفي الإقليم، أنه لا يمكن إبقاء أمن الإقليم بأسره رهينة للقوى العقائدية والسرديات المتناحرة ابداً. وفي هذه الظروف تبدو اللحظة مناسبة لإسرائيل كي تقدم مساهمتها في العمارة الإقليمية للأمن والسلام.
وحين يقول وزير الخارجية السعودي إن “السعودية تنتظر الأمر في إطار تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، أو على الأقل أن يناقش الطرفان خطة للتسوية يمكن تطبيقها”، فإنه
يطالب إسرائيل عملياً بوضع النقاط على الحروف في هذه اللحظة بالذات.
وكما توضح التجربة التاريخية في الشرق الأوسط، ان تلك اللحظات التاريخية التي فوتها زعماؤه قد أوصلتنا الى حيث لا احد يمكن ان يكون آمنا لوحده بشكل منفرد.