التقارب الصيني الإيراني بمرآة أميركية
دراسىة من إعداد مرح البقاعي
الاستماع للمقال صوتياً
|
مستجدّات الاستراتيجيات السياسية العابرة للحدود لدولة الصين
مبادرة الحزام والطريق
مقدّمة
تسعى الصين بشكل متعاظم أن ترفع من تصنيفها العالمي من مصاف القوّة الإقليمية الأكبر في آسيا، إلى مقام الدول الكبرى المهيمنة في العالم مقارَنةً بالولايات المتحدة – الخصم اللدود، وقد أطلقت بكين في دائرة تلك المساعي مبادرة “الحزام والطريق” في العام 2013. تغطي هذه المبادرة ما يزيد على 85 دولة، وما نسبته 65% من سكان العالم، الأمر الذي ساعد على إدراجها ضمن كبرى مشاريع البنية التحتية والاستثمار في التاريخ بما يشمل قطاعات التعليم، ومواد البناء، والسّكك الحديديّة والطرق السريعة، والسيارات والعقارات، وشبكات الطّاقة والغاز والنفط والحديد والصلب.
للمبادرة كما يشير اسمها مساران: الأول برّي (الحزام) والثاني بحري (الطريق)، وللمسارين أهداف جيوسياسية أبعد بكثير من ظاهر المبادرة في إحياء طرق التجارة القديمة البحرية والبرية؛ فهي لا تتعلق بالتجارة والاستثمار وحسب، بل ستتجاوزها نحو التأسيس لتحالفات دولية جديدة تعتمد على الكتلة البشرية الضخمة التي تنضوي تحت مظلة المبادرة، ما يضمن للصين هدفها البعيد المدى في ولوجها حلبة الدول الكبرى المؤثرة، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع أوروبا بعامّة، والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص.
الاسم الأول الذي أُطلق على المبادرة كان “حزام واحد وطريق واحد”. والمبادرة هي استراتيجية أممية لدولة الصين، وتعتبر بمثابة محور السياسة الخارجية التي رسمها الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني شي جين بينغ. (1). هذا ويشير “الحزام” إلى الطرق البرية للنقل البري والسكك الحديدية المسماة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، بينما يشير “الطريق” إلى الطرق البحرية أو طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين وقد تم تضمينه في دستور الصين الشعبية في العام 2017.
وفي حين تصف الحكومة الصينية المبادرة بأنها “محاولة لتعزيز الاتصال الإقليمي وتبنّي مستقبل أكثر إشراقاً”، يرى بعض المراقبين أنها خطة للسيطرة على العالم من خلال شبكة تجارية عالمية تتمحور حول الصين، أو مشروع صيني متكامل لاستخدام هذه المبادرة لأغراض عسكرية لم يعلن عنها. وسيكون العام 2049 هو عام استكمال المشروع، وهو يتزامن مع الذكرى المائة لقيام جمهورية الصين الشعبية.
تضفي العلاقة مع الأمم المتحدة شرعية دولية على هذه المبادرة من خلال تعاون منظمة اليونيسكو وبرنامجها طرق الحرير مع متحف الحرير الوطني الصيني. وقد أقيم احتفال عبر الانترنت في تاريخ 23 تموز/يوليو 2020 بالذكرى الثلاثين لرحلات طريق الحرير التي أطلقتها اليونيسكو على صورة خمس بعثات على طول القطاع الصحراوي من طرق الحرير بين عامي 1990 و1995. وكانت الحملة الأولى قد بدأت في 20 يوليو 1990 في شيآن، حاضرة مقاطعة شنشي شمال غربي الصين.(2)
أما دول الاتحاد الأوروبي، فلا تخفي قلقها من امتدادات الصين وغاياتها لاسيما أن “الحزام والطريق” يعتريها الكثير من الغموض الذي تختفي وراءه رغبة جامحة صينية في السيطرة المطلقة؛ فالمبادرة ستُلحق حيزاً واسع النطاق من البنية التحتية في أوروبا الشرقية والوسطى تحت المظلة الصينية؛ وها هو مرفأ بيرايوس في اليونان – أحد أهم المرافئ في العالم – قد انتقل إلى يد الصين في العام 2016، ما دقّ جرس الإنذار في العديد من دول أوروبا النافذة اقتصادياً مثل فرنسا والدانمارك وألمانيا. وقد سبق أن عبّرت ألمانيا عن قلقها على لسان وزير خارجيتها الأسبق، زيغمار غابرييل، حين قال: “ستنجح الصين في تقسيم أوروبا إذا لم تكن لدينا استراتيجية موحّدة للوقوف بوجهها”.
الولايات المتحدة الأميركية بدورها في حالة ترقّب لمآلات هذه المبادرة. وهي التي لا تخفي عداءها المستشري للصين وقد تبدّى بأخطر صوره في الأسبوع الفائت حين تم إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن – تكساس إثر اتهام واشنطن بأن القنصلية طرف من شبكة تجسس صينية واسعة على أراضي الولايات المتحدة تستخدم مرافق دبلوماسية (قنصليات صينية في 25 مدينة أميركية). وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية رسمياً أن الإغلاق تمّ “من أجل حماية الملكية الفكرية الأميركية والمعلومات الخاصة”. وقد سبق هذه المواجهة المباشرة الدبلوماسية تدهور لافت للعلاقات بين البلدين إثر اتهام واشنطن الصين بمسؤوليتها عن انتشار جائحة كوفيد 19 وإخفائها المعلومات عن طبيعة المرض والمريض رقم 1، ناهيك عن الحرب التجارية بينهما وانتقادات واشنطن اللاذعة لانتهاكات بكين المستمرة لحقوق الإنسان في هونغ كونغ وكذا اضطهادها لأقلية الإيغور المسلمة على أراضيها. (3)
لم تضم مبادرة الصين المسماة “الحزام والطريق”، أو ما باتت تُعرف اصطلاحاً بـ”طريق الحرير الجديدة”، أي دولة عربية بشكل رسمي في مساراتها الستة الأساسية. استثناء الدول العربية من مسارات المبادرة أمر لافت، لا سيما أن الصين تستورد 40% من نفطها من المنطقة العربية. ومع أن الصين تكرّر دائماً رغبتها في تعزيز الشراكة مع الدول العربية، فإن مخطط “الحزام والطريق” لا يعكس هذه الرغبة، بل وقد يؤشر إلى اتجاه عالمي للتقليل من الاعتماد على مصادر الطاقة، تحديداً من الشرق الأوسط على المديين المتوسط والبعيد.
بالرغم من ذلك، فقد سارعت الدول العربية بشكل فردي إلى توقيع اتفاقيات للتعاون مع الصين على هامش المبادرة للاستفادة من مشاريعها، إلاّ أنّ طبيعة المبادرة ذاتها تفرض تكاملاً عربياً يساعد في تحوّل المنطقة العربية إلى موقع جذب للاستثمارات الخارجية في موازاة التحديات التي ستفرضها المعطيات الجديدة الناجمة عن المشروع الصيني الضخم، والذي سيجعل دولاً أخرى في آسيا الوسطى مركز ثقل مهم للربط بين دول المبادرة الـ 65.
ولعلّ التحدي الأساس بالنسبة إلى الدول العربية هو في أن الصين التي تستورد حاجاتها من النفط من مجلس التعاون الخليجي، تبحث عن موارد من خارج الشرق الأوسط، وتعوّل على خط أنابيب يمتد بين الصين وروسيا مروراً بآسيا الوسطى كبديل لتأمين حاجاتها. (4)
الأمر المقلق أيضاً في معسكر الدول الغربية وأغلب الدول العربية هو انتعاش العلاقات الصينية الإيرانية حتى يبدو البلدان وكأنهما يدخلان في حلف غير معلن، وعلى العديد من الصعد السياسية والثقافية والاستثمارية.
وتحكم العلاقات الإيرانية – الصينية مجموعة من المحدّدات التي ساعدت على تقوية العلاقات بينهما. ويتعلق المحدد الأول بالأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط في السياسة الصينية، حيث تُعد مصدراً للطاقة والاستثمار، فضلاً عن كونها وجهة لرأس المال والعمال الصينيين، وتمد دول الخليج الصين بجزء كبير من نفطها وغازها الطبيعي المستورد. ولذلك تسعى بكين إلى توطيد وجودها في المنطقة سواء سياسياً أو عسكرياً ولم تجد أفضل وأسرع من البوابة الإيرانية لتحقيق هذا الغرض نظراً لعلاقات الصداقة والتحالف بين البلدين الممتدة على مدار عقود، متجاهلة علاقاتها مع الدول العربية ولاسيما دول الخليج، وموقف هذه الدول من حلفها مع إيران التي تعيث فساداً وإرهاباً في المنطقة بأسرها.
أما المحدد الثاني فيخص تشاركهما العداء لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فكلا البلدين يرزخان تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية، وكلاهما يسعيان لاستغلال علاقاتهما البينية الطيبة في تخفيف حدة هذه العقوبات؛ فإيران تعتمد على الصين في تصريف النفط، والصين تستخدم إيران كورقة ضغط في المفاوضات التجارية مع الولايات المتحدة، بينما يسعى البلدان معاً إلى لعب دور إقليمي يزاحم النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
ويتعلق المحدد الثالث بتقاطع رؤى البلدين حول الصراعات الإقليمية، وهو ما يتضح بجلاء في الأزمة السورية، فكلا البلدين يدعمان استمرار الرئيس السوري بشار الأسد على رأس السلطة في بلده، وكلاهما قدما الدعم السياسي والعسكري للنظام السوري: الصين من خلال استخدام الفيتو ضد أي قرار في مجلس الأمن يتعلق بإدانة نظام الأسد وتهريب الأسلحة والذخائر إليه، وإيران من خلال المشاركة في مسار آستانا ودعم الميليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب النظام السوري بالمال والسلاح.
“الحزام والطريق” والمنطقة العربية
يشير تقرير وكالة أسكوا في دورته الاستثنائية السادسة التي عقدت في العاصمة الأردنية عمّان في كانون ىالأول /ديسمبر العام 2019 (ملحق التقرير كاملاً مع هذا التقرير)، إلى أن الصين لم تشرك أي دولة عربية في طريق الحرير الجديد رغم أن تلك الدول كانت جزءاً من طريق الحرير القديم.
من المرجّح أن تؤثر المبادرة على ديناميات الدول الإقليمية حسب الإسكوا. وقد ينطوي الممر الذي يربط بين الصين وآسيا الوسطى وآسيا الغربية على مشاكل بالنسبة إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي نظراً لأنه يتيح لإيران أن تصبح مركزاً للوجستيات والنقل، بالإضافة إلى القدرة على الإمداد بالطاقة. أما الممر الاقتصادي الذي يربط بين الصين وباكستان، فقد يشكّل ممراً رئيساً نحو بلدان الخليج العربي لأن ميناء غوادار يمكنه أن يسرّع عملية تجارة النفط الخليجي مع الصين لكنه قد يكون بديلاً عن الموانئ العربية ما يؤدي إلى حرف مسار التجارة الدولية بعيداً عن المنطقة العربية برمّتها.
هذا وكانت بكين قد عقدت في شهر نيسان/أبريل العام 2019 قمة مبادرة الحزام والطريق وحضرتها الإمارات العربية المتحدة ومصر. وأبدت الصحف الإماراتية والمصرية تفاؤلاً حيال المبادرة وتعاون الصين مع الدولتين.
وجاء في افتتاحية صحيفة البيان الإماراتية خلال أعمال القمة: “تعمل الإمارات في إطار هذه الرؤية على أن تصبح محطة حيوية على طريق الحرير بالاعتماد على ما تتمتع به من مزايا نوعية، بما في ذلك امتلاكها بنى أساسية فائقة الحداثة وبيئة تشريعية وقانونية تحفز على نمو وازدهار الأعمال”.
ورأى أكرم القصاص في صحيفة اليوم السابع المصرية أن “الصين تبشّر بمصالح مشتركة لدول العالم، ولا تكتفى فقط بالتوقف عند المنافسة التقليدية مع الغرب، والولايات المتحدة في مقدمته”.
لم تحضر المملكة العربية السعودية القمة، وأبرزت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية الانتقادات التي توجّه للمبادرة الصينية، حيث أفادت: “دافع الرئيس الصيني عن مبادرته المتهمة بأنها “فخ ديون” للدول الفقيرة مؤكداً أنها مجموعة مشاريع تخدم البيئة وقابلة للاستمرار مالياً بلا فساد. لكن منتقديه يتهمونه بأنه يعمل على تعزيز مواقع ونفوذ الشركات المتمركزة في الصين بشكل أساسي، بينما في الوقت نفسه ينصب ‘أفخاخاً من الديون’ للبلدان التي تستفيد من قروض تمنحها المصارف الصينية”. (6)
إيران والصين في الحلف المستجدّ
أعلنت الصين وإيران مؤخراً أنهما تمضيان قدماً في خارطة طريق مدتها 25 عاماً لتوسيع دوائر العلاقات السياسية والاقتصادية بينهما. وفي حين أن تفاصيل هذا الاتفاق الشامل لم يتم الكشف عنها بعد، فمن الواضح أن هذا الاتفاق سيشكل محوراً حيوياً بالنسبة لإيران، بينما تزيد هذه الصفقة من ضعف موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
كانت الولايات المتحدة قد انسحبت في العام 2018 من اتفاقية نزع السلاح النووي الإيرانية المتعددة الأطراف، وهي تغادر منظمة الصحة العالمية، كما تتخذ خطوات أخرى للتراجع عن المسرح العالمي حيث للمرة الأولى منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية يتراجع الدور القيادي للولايات المتحدة حول العالم لمصلحة المنافس والعدو الجديد لواشنطن وهو بالطبع بكين.
في ظل هذا التغيّب الأميركي عن الدوائر الحيوية في الشرق الأوسط، مدّدت الصين خلال السنوات العشر الأخيرة نفوذها وانتشارها الاقتصادي في المنطقة، لكنها ظلت إلى حد كبير محايدة دبلوماسياً وغائبة عسكرياً. أما من الناحية العسكرية، فلم يكن للبحرية الصينية تواجد مؤثر سوى بعض الزيارات الموسمية إلى ميناء بندر عباس الإيراني، ومناورات محدودة مع البحرية الروسية والإيرانية في شمال المحيط الهندي، إضافة إلى عملية إجلاء قامت بها الصين من ليبيا في بداية الحرب هناك كانت أقل تنسيقاً وفعالية بكثير مما زعمت السلطات الصينية.
أما ما بعد “الحزام والطريق” والتقارب غير المسبوق الإيراني الصيني فإن الأمور تأخذ منحىً آخر، والنفوذ العسكري الصيني لم يعد محدوداً في محيط الصين في هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي، إذ أنشأت القيادة الصينية قاعدة عسكرية في جيبوتي على بُعد أميال قليلة من قاعدة أميركية في البلد ذاته قرب باب المندب، وبدأ الطيارون الصينيون في اعتراض ترددات وإشارات الطيارين الأميركيين في المنطقة وفقاً لمصادر عسكرية أميركية.
المؤشرات تتجّه نحو إرادة في بكين لإقامة قاعدة دائمة لها (قد تكون على جزيرة كيش) في إيران بعد اتفاقات أمنية وعسكرية وقعها الجانبان خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى طهران العام 2016، والتي التقى خلالها المرشد الأعلى علي خامنئي، والرئيس حسن روحاني.
يرى المراقبون أن التواجد العسكري المتنامي للصين في المنطقة الحيوية للولايات المتحدة، ستكون له تداعيات مختلفة حال التأكد منه بشكل قاطع. فالولايات المتحدة التي تنشر قواتها في دول مختلفة بالمنطقة ليست منسجمة البتة مع منافسة دولة كبرى أخرى في المنطقة عينها حيث تتمتع فيها بتفوق واضح وبمصالح استراتيجية قديمة ومتجددة. ومن المؤكد أن التواجد العسكري الصيني، سيدفع الولايات المتحدة إلى تعزيز تواجدها في منطقة الخليج والمياه الدولية هناك.
التواجد العسكري الصيني داخل إيران في هذا التوقيت، من شأنه أن يزيد الأوضاع توتراً بين بكين وواشنطن، ويصب مزيداً من الزيت على نار أزمة كوفيد 19 وتداعياتها، كما أنه يفتح جبهة جديدة لمواجهات محتملة، بخاصة أن الإدارة الأميركية ستنظر إلى الدعم الصيني الاقتصادي والعسكري لإيران، على أنه تحدٍ واضح لجهود إدارة الرئيس دونالد ترمب لإخضاع النظام الإيراني عبر سياسة الضغوط القصوى للعقوبات.ولم يستبعد آخرون أن تدفع هذه الخطوة إن تأكدت حقيقتها، فرض الولايات المتحدة عقوبات ضد الصين ما قد يُدخِل العالم في دوامة من الأزمات الاقتصادية قد تضُر الجميع.
تقول كليو باسكال، الباحثة في معهد الدفاع عن الديمقراطيات: “الصين شجعت قبل سنوات فكرة تقسيم العالم بين منطقتَي نفوذ، واحدة تحت النفوذ الأميركي، والأخرى تحت النفوذ الصيني”، محذرةً من أن “الثقة غير موجودة بين واشنطن وبكين، وبالتالي لا بد من الحذر في التعامل مع النوايا والأفعال الصينية”.
يتزامن كل ما سبق مع بيان الممثل الدائم للصين في الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن، ومطالبته الولايات المتحدة بوقف عقوباتها ضد إيران، ومعارضته الضغط الأميركي لتمديد حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على حليفتها، ما يشير إلى الهدف المباشر الذي تأمل طهران بالحصول عليه مقابل تعاونها مع بكين. (7)
الصفقة المباشرة بين طهران وبكين
أحد العناصر السرية للصفقة الموقعة العام الماضي، يتمثل في أن الصين ستستثمر 280 مليار دولار أميركي في تطوير قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات في إيران. وسيتم ضخ هذا المبلغ مقدَماً في أول خمس سنوات من السنوات الـ25 المقبلة.
كما أُرسي تفاهم على إتاحة مبالغ إضافية كل خمس سنوات، بشرط موافقة الطرفين، مع استثمار 120 مليار دولار أميركي أخرى خلال السنوات الخمس الأولى لتطوير البنية التحتية لقطاعَي النقل والتصنيع في إيران، مع إمكانية إضافة مبالغ أخرى كل خمس سنوات لاحقة إذا اتفق الطرفان.
في المقابل، ستتمكن الصين من شراء أي منتجات بترولية، أو غازية، أو بتروكيماويات بخصم قدره 12 في المائة مقارنةً بسعر القياس في السوق، بالإضافة إلى خصم آخر يتراوح بين 6 و8 في المئة كتعويض مخاطر؛ وستتمتع بكين بأحقية السداد لمستحقاتها المالية طوال مدة تصل إلى سنتين، وكذلك الدفع بعملات حصلت عليها من تجارتها مع دول أفريقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق، ما يعني أن إجمالي الخصم الذي ستحصل عليه الصين قد يصل إلى 32 في المائة من مشتريات النفط، والغاز، والبتروكيماويات.
وأكثر من ذلك، ستشارك الصين بشكل متكامل في تشييد البنية التحتية الأساسية لإيران، بما يتوافق مع المشروع الجيوسياسي الرئيس الصيني، “حزام واحد، طريق واحد”.
ووفقاً لتصريحات نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانجيري، ومسؤولين إيرانيين آخرين بارزين العام الماضي حول هذا الاتفاق، فإن طهران وقعت عقداً مع بكين لتنفيذ مشروع تحديث وكهربة خط سكك حديد طهران – مشهد بطول 900 كيلومتر، فضلاً عن خطط لتأسيس خط سكك حديدية سريع بين طهران ومدينة قم، يمتد إلى تبريز في الشمال الغربي لإيران التي تُعد موطناً لمواقع وصناعات النفط والغاز والبتروكيماويات، ونقطة البداية من خط غاز تبريز – أنقرة، ومن ثم ربط طريق الحرير الجديد الذي ينطلق من غرب الصين، بإيران ويصل إلى تركيا، وأوروبا مروراً بكل من كازاخستان وقيرغيزستان، وأوزباكستان، وتركمانستان.
الموقف الأميركي من الاتفاق
التوتر بين الصين والولايات المتحدة الأميركية متعدد الوجوه والأبعاد وليس حديث العهد البتة ولا هو وليد الاتفاق المبرم بين طهران وبكين مؤخراً؛ إلا أن هذا الاتفاق يرفع من منسوب هذا التوتر إلى درجة يمكن أن يتحول إلى فيضان من الغضب الأميركي الذي قد لا يحمد عقباه، وخاصة مع محاولات البيت الأبيض عزل إيران على المسرح العالمي وتطبيق أقصى العقوبات الاقتصادية عليها.
وفي خضم حرب القنصليات التي بدأتها واشنطن حين قامت بإغلاق القنصلية الصينية في مدينة هيوستن من ولاية تكساس واتهمت القائمين عليها بالتجسس، بينما قابلت بكين الخطوة الأميركية بأخرى موازية على أراضيها، قام آية الله خامنئي بتجديد عهده بالانتقام من الولايات المتحدة وتوجيه ضربة قوية لها لاستهداف قائد الميليشيات الإيراني قاسم سليماني وقتله في العراق. ففي 27 تموز/ يوليو أطلقت إيران في بحر العرب مجسماً يحاكي حاملة طائرات أميركية تبحر بالقرب من شواطئها، وقامت باتخاذ هذا المجسم هدفاً لمناورة عسكرية ضخمة أقامتها ضمن حملة التهديد والاستفزاز التي تشنّها على واشنطن .
وضمن هذا السياق المتعدّد الأوجه والأخطار المرتقبة، تراقب الولايات المتحدة بحذر التقارب الإيراني الصيني، لا سيما بعد الإعلان عن قرب اتفاق استراتيجي بين الجانبين. ومن بين الخطوات التي باتت تتبناها الولايات المتحدة عقب الكشف عن الاتفاق الإيراني الصيني، أنها تطلب من أقرب حلفائها العرب المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين التوقف عن محاربة حليفها الآخر في الخليج قطر، حسب المحرر السياسي في الفايناشال تايمز. (8)
الحقائق حول الاتفاق المفترض بين الصين وإيران “قليلة”. فبكين تقول القليل، وزعماء إيران يتجنبون رد فعل عنيف من القوميين الذين يزعمون أن إيران على وشك أن تصبح دولة “عميلة للصين”؛ بينما تشي الخطوط العريضة لمسودة الاتفاقية عن شراكة استراتيجية شاملة ضمن اتفاقية استثمار وأمن لمدة 25 عاماً تبلغ قيمتها الإجمالية ما يقارب 480 ملياردولار أميركي.
وبحسب الاتفاق، من المفترض أن تستثمر الصين في المطارات والموانئ، والاتصالات والنقل، وحقول النفط والغاز، والبنية التحتية، والخدمات المصرفية، وهي بذلك تلبي احتياجات إيران الاستثمارية. في المقابل، ستوفر إيران شحنات ضخمة ومخفضة من النفط الإيراني على مدار الفترة لتغطية حاجة الصين من واردات الطاقة التي وصلت إلى 10 ملايين برميل يومياً، وهذا تقريباً ما تنتجه السعودية – خصم إيران اللدود.
من الضروري الإشارة إلى أن الحوارات المعمّقة حول هذه الاتفاقية الاستراتجية بين إيران والصين التي بدأت في عام 2016 عندما إثر لقاء الرئيس الصيني الزعيم الإيراني علي خامنئي، قد تلت مباشرة الاتفاق النووي التاريخي الذي وقعته إيران في العام 2015 مع الولايات المتحدة والقوى الخمس الكبرى: فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وروسيا والصين، فيما عرف باسم اتفاق 5+1.
نظر الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، إلى الاتفاق على أنه لن لن يتعامل مع احتمال امتلاك إيران لسلاح نووي وحسب، ولكن إفي استخدامه منصة لإعادة دمج إيران في الاقتصاد العالمي بما يجلب توازناً جديداً للقوى في الشرق الأوسط، ويدفع إيران والسعودية إلى المزيد من الانفتاح. وقد تم استبعاد قناعات أوباما تلك وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، الذي دعا المملكة العربية السعودية لقيادة حملة لعزل إيران.
في العام 2018، انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وأعاد ترامب فرض عقوبات صارمة على الاقتصاد الإيراني، وهدد بفرض عقوبات على الحلفاء وكذلك الخصوم الذين يتعاملون مع إيران.
بالنسبة لإيران تعتبر صفقة الصين شريان الحياة للهروب من الخنق لاقتصادها. وبالنسبة للصين، يمكن أن تكون العلاقات الوثقى مع إيران امتداداً منطقياً لمبادرة “الحزام والطريق” الطموحة، بالإضافة إلى كونها رد قوي ومقلق على إدارة ترامب في مواجتها المتصاعدة مع بكين.
أما القاطع النفطي من الشراكة، فيمكن تفسيره بسهولة برغبة الصين الشديدة في استيراد النفط الخام، علماً أنه لدى بكين صفقات إمداد مماثلة طويلة الأمد مع روسيا لمدة 25 عاماً، ومع العراق لمدة 20 عاماً؛ لكن الفارق يقع في أن ترامب يحاول تقليل صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر. ومع ذلك، كان الخيار الأول لإيران، بعد توقيع الاتفاق النووي العام 2015 هو إنهاء عزلتها والسعي لإعادة بناء الروابط الاقتصادية مع الغرب بدلاً عن الشرق.