رسالة المحرّر

الاستفتاء الدستوري في الحالة السورية

بقلم مرح البقاعي

الاستماع للمقال صوتياً

نُشر في نسخته الأولى في صحيفة العرب الدولية

يُعتبر الدستور العقد الاجتماعي الأسمى بين أبناء الشعب الواحد، يجتمعون حوله لبناء دولتهم والتأسيس لحكم رشيد يكون فيهالقانون بمواده المنبثقة عن ثوابت الدستور هو السلطة العليا فيالبلاد، ولا سلطة تعلو عليها.

ويُجمع الفقهاء الدستوريون على أن عملية الاستفتاء على الدستور هيمن أنجع الآليات الديمقراطيــة التي تتبعها الدول المعــاصرةفي إقرار دساتيرهــا وقواعد نظام الحكم فيها؛ وإلى هذا تعود أصولفكـرة “الاستفتاء التــأسيسي” في وضع الدساتير، وهي من أهـممظـاهر الديمقـراطية شبه المباشرة.

يمكن تعريف الاستفتاء التأسيسي بأنه العمل الجماعي الوطني الذيينكبّ على كتابة مشروع دستور لحكم الدولة، يتم وضع مواده من لجنةمختارة من الخبراء والمتخصّصين، ويأخذ المشروع صفته القانونيةويصدر إذا وافق عليه الشعب في الاستفتاء العام، وإذا رفضه زال ماكان له من اعتبار بصرف النظر عمَّن قام بوضعه، ولو تعلَّقالأمر بجمعية تأسيسية منتخبة من الشعب.

يمكن القول في هذا السياق أن أسلوب الاستفتاء التأسيسي يمرّبمرحلتين: المرحلة الأولى، هي مرحلة إعداد مشروع الدستور ويتولىالقيام بهذه المهمة إما جمعية تأسيسية ينتخبها الشعب أو لجنة خبراءيتم اصطفاء أعضائها بناء على الكفاءة، علماً أن ما تضعه الجمعية أواللجنة من قواعد ونواظم للدولة يبقى مجرد مشروع دستور يفتقر إلىصفَتَيْ النهائية والنفاذ؛ أما المرحلة الثانيةفهي مرحلة نفاذ الدستور،وتبدأ هذه المرحلة بمجرد اقتران مشروع الدستور بموافقة الشعب بعدعرضه عليه في الاستفتاء الشعبي العام .

وهنا يكمن الفرق التقني بين أسلوب الجمعية التأسيسية وأسلوبالاستفتاء الدستوري التأسيسي. فإذا كان الشعب بموجب الأسلوبالأول لا يُقرّر بنفسه دستوره، وإنما يقتصر دوره على اختيار نوابهالذين سيقرّرون باسمه ونيابةعنه دستور البلاد؛ فإن الشعب بموجبالأسلوب الثاني هو الذي يقرر دستوره بنفسه من خلال الموافقة أو عدمالموافقة على مشروع الدستور المطروحللاستفتاء؛ ويترتب علىذلك نتيجة مهمة مفادها أن الدستور الذي يوضع وفقاً لأسلوب الجمعيةالتأسيسية إنما يستكمل وجوده قانوناً ويصبح نافذاً بمجرد إقراره فيصيغته النهائية من قبل الهيئة المنتخبة، في حين أن الدستور الذييوضع وفقاً لأسلوب الاستفتاء التأسيسي لا يستكمل شرعيته قانوناًونفاذاً إلا إذا أقرَّه الشعب في استفتاءٍ عام.

مما تقدّم نخلص إلى الحالة السورية الراهنة وماهية التشكيلالدستوري الذي أقرته الأمم المتحدة على هيئة “للجنةالدستورية” الجامعة بأعضائها المائة والخمسين لأطراف المعارضةوالنظام والمجتمع المدني، ويمكن اعتبارها نموذجاً مثالياً لأسلوبالاستفتاء السياسي في صياغة الدساتير نظراً لتعذّر انتخاب لجنةتأسيسية دستورية ضمن واقع الشتات الذي يعيشه السوريون.

لكن ماذا يريد السوريون الآن من دستورهم؟ وكيف سيحقق هذا الصكالاجتماعي الوحدة الوطنية أرضاً وشعباً إثر حرب غير مسبوقة أسفرتعما يقارب المليون شهيد سوري منهم من قضى ورحل عن عالمنا،ومنهم شهداء أحياء في معتقلات نظام الأسد، هذا إضافة إلى تشريدالملايين من النازحين واللاجئين المنتشرين في الأرض؟ ولماذا مضىالسوريون أصلاً في ثورتهم وقدّموا التضحيات الجسام، هل كان هذالمجرد خلاف دستوري مع السلطة الحاكمة أم أن الأمر جلل؟

لقد خرج الشعب السوري الحرّ في شهر آذار من العام ٢٠١١ مطالباًبحقوقه الإنسانية المشروعة التي غيّبها نظام الاستبداد الجاسم علىصدر سوريا لعقود خلت؛ تلك الحقوق غدت مطالب أساس لا يمكنالتنازل عن أي منها، التزمت بها قوى المعارضة والثورة التي انخرطتلاحقاً في عملية الانتقال السياسي متبنيةً ثوابت الشعب السوريوثورته، ودافعةً بها لإقرارها في المحافل الدولية؛ تلك الثوابت التي رعتهاقرارات الأمم المتحدة واعتمدتها التزاماً دولياً لا بد من تنفيذه.

فالشعب السوري متمسّك بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وبسيادة الدولةعلى كامل أراضيها على أساس مبدأ اللامركزية الإدارية. والشعبالسوري ملتزم بالتأسيس لنظام حكم ديمقراطي تعدّدي مدني يثريهتنوّع النسيج الاجتماعي السوري، وذلك ضمن دولة تحترم المواثيقالدولية وتحتفي بالحريّات العامة وتقرّ شرعة حقوق الإنسان العالمية فيإطار وحدة جغرافية سياسية ذات سيادة كاملة تعتمد مبدأالمواطنة المتساوية، ونظام حكم يمثّل كافة أطياف الشعب السوري مندون تمييز أو إقصاء على أساس ديني أو طائفي أو قومي أو جنسي،بل يرتكز إلى مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة وسيادة القانون.

والشعب السوري يريدها دولة تنهج التعددية السياسية والحزبيةوالتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع السرّي والمباشرللشعب السوري؛ ويريدها دولة تحترم وترعى حقوق الإنسان والحرياتالعامة، ولا سيما في أوقات الأزمات.

والشعب السوري يرى سوريا دولةً متعدّدة القوميات والثقافات، يقرّدستورها بحقوق المكونات القومية كافة، وبامتياز ثقافاتهم ولغاتهم علىأنها لغات وثقافات وطنية تمثّل خلاصة تاريخ سوريا وحضارتها؛ كمايراها دولة المواطنة واحترام كرامة المواطن ومعتقده، تتساوى فيهاالحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وتضمن قوانينها التمثيل النسائيالمتكافئ ومشاركتهن في المؤسسات وهياكل صنع القرار، مع وضعالآليات الهادفة إلى تحقيق مستوى تمثيل لا يقل عن 30% للنساء فيالهيئات السياسية والمناصب العليا، وإقرار حق المرأة في الترشّح إلىموقع رئاسة الجمهورية.

يريد الشعب السوري الإفراج الفوري عن المعتقلات والمعتقلينالسياسيين كافة، وإنهاء عهود الاعتقال السياسي المظلمة من الحياةالسورية وإلى الأبد، والقطع مع النظام الأمني والمخابراتي الموجّه لقمعالإنسان السوري لا لحمايته كما يُفترض بمهمة رجال الأمن؛ كما يشدّدعلى وجوب محاسبة كل من تعرض للمعتقلين بالأذى الجسدي والنفسيأمام محاكم وطنية عادلة، ويطالب بتعويض المعتقلين وأسرهم عن العطلوالضرر المترتب على اعتقالهم؛ كما يقرّ ضرورة العودة الطوعية للاجئين،وعودة النازحين والمهحرين قسراً إلى بيوتهم مع تعويضهم عن الأضرارفي منازلهم ضمن بيئة آمنة وكريمة وصحية.

يطمح الشعب السوري إلى تأسيس جيش وطني قوي، موحّد، ومتسمبالكفاءة، يضطلع بواجباته بموجب الدستور ووفقاً لأعلى المعايير. تتمثّلمهام الجيش في حماية الحدود الوطنية، وحماية الشعب من التهديداتالخارجية والإرهاب، بحيث يكون امتلاك السلاح حق حصري للجيشالوطني؛ ويرفض الشعب السوري قطعاً كل أشكال الإرهاب والتطرّفوالطائفية، مع التزامه الفاعل بمكافحتها بجميع أشكالها، والتصديللأوضاع والظروف المؤدية إلى انتشارها؛ كما يرفض بالمقابل وجودالميليشيات والقوات الأجنبية على أرضه بأية ذريعة جاءت، ويحضّ علىخروج جميع القوات المقاتلة الغريبة من الأرض السورية.

يملك الشعب السوري وحده حق تقرير مستقبل بلاده بالوسائلالديمقراطية، ومن خلال انتخابات نزيهة وشفافة؛ ويملك الشعبالسوري الحق الحصري في اختيار النظام السياسي والاقتصاديوالاجتماعي الخاص به دون الخضوع إلى الضغوط أو التدخلاتالخارجية، وبما يتّسق مع الحقوق والالتزامات الدولية لسوريا.

هذا مشهد حيّ من مشاهد تحرّر الإنسان والأرض دفع ثمنه السوريونغالياً من حياتهم وحياة أبنائهم ومستقبلهم، وقد حان زمن الاستجابةلهذا الخروج الكبير وغير المسبوق لشعب في التاريخ المعاصر، وقد تفرّدبه الشعب السوري تضحية وإصراراً وإقداماً.

وإنما الأيام دول نداولها بين الناس.

مرح البقاعي

مستشارة في السياسات الدولية، صحافية معتمدة في البيت الأبيض، ورئيسة تحرير منصة .’البيت الأبيض بالعربية’ في واشنطن
زر الذهاب إلى الأعلى