مقال الرأي

البوتينيّة “العمودية” في مواجهة آفاق الغرب

مرح البقاعي

الاستماع للمقال صوتياً

بعد مرور ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي يعود الصدام بين قيم الغرب وثوابت العقيدة الروسية إلى الواجهة من جديد أكثر سخونة لاسيما في مواقع تضارب المصالح في قلب الشرق الأوسط.

تُلقي الإدارة الأميركية المسؤولية في التوتر الشديد الجاري بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من طرف وروسيا من طرف آخر، إلى القرارات الصدامية التي يتّخذها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ابتداء بضمّه شبه جزيرة القرم، ثم دخوله سوريا بجيش جرار، وأخيراً حشده على الحدود مع أوكرانيا والتهديد باقتحامها وإضافتها إلى قائمة متواليات مغامراته الحربية المتهورة التي بدأت تهدد الاستقرار العالمي بشكل لم يعد التغاضي عنه هو النهج المقبول.

وقد بدأ الخوف يتسلل فعلاً إلى الجيران الأوروبيين لروسيا من النظرة الفولاذية الباردة للقضايا السياسية والدولية التي تطبع رؤية بوتين وأسلوبه في الحكم، وبدأوا يتساءلون ما إذا كنا سنشهد انتعاشاً موضعياً للدكتاتوريات التي رافقت حقبة الحرب الباردة. وشرع المتابعون للشأن الدولي العام، والروسي بشكل خاص، بتأويل الحدث الروسي الراهن على أنه حالة من حرب باردة ثانية وعودة إلى صراع العملاقين القابعين في الشرق والغرب بمعايير جديدة وبتفوّق واضح هذه المرة للدوغما الروسية الجديدة التي تتجلى بالعقيدة “البوتينية”.

من نافلة القول أن الشعب الروسي أصيب بحالة من انعدام الوزن والتشظّي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي والظروف التي رافقت ذاك الانهيار الكبير، ناهيك أن معظم المواطنين الروس يعتقدون اعتقاداً جازماً أن نموذح الديمقراطية الغربية لا يتفق بالمطلق مع قيمهم وتقاليدهم المتوارثة، والقوميون المتشددون منهم ينظرون بعين الريبة والامتعاض من الممارسات الديمقراطية الطفيفة التي تجلّت في بلادهم بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي وقبيل صعود نجم بوتين، بل هم يقرنون تلك الممارسة الديمقراطية بالفوضى والانحطاط الثقافي، وبالنتيجة هم مستعدون للتضحية بالحريات والديمقراطية من أجل سيادة النظام وتثبيت الاستقرار. وهكذا يرى الروس أن النأي عن مظاهر وتطبيقات الديمقراطية – كما رسم الغرب خطوطها العريضة ويعيش فصولها – إنما هو حفاظ وحماية للبنية الاجتماعية والموروث التاريخي للشعب الروسي الذي يعتزّ به الروس أيما اعتزاز، بل ويقدّمونه على نظام سياسي منفتح على الاحتمالات والتقلبات التي تحملها رياح الممارسات الحرّة.

ومن هذا المنطلق استطاع بوتين أن يرسّخ دعائم حكمه بما اتسم به من نزعة النوستالجيا إلى الحقبة الزمنية التي سادت فيها روسيا كقوة عظمى في العالم، وليعزّز هذا الشعور القومي المضطرم . فالإحساس العميق بالحنين إلى روسيا المتفوّقة والقوية كان دائماً ما يميز رؤية بوتين من خلال دفاعه المتواصل عن القيم الروسية والرموز التقليدية وحمايتها من هجمة الثقافة الغربية والعولمية. أو بالمعنى الأدق للكلمة، فإن بوتين قد انصرف إلى استرجاع الإيديولوجيات الغابرة وإنعاش الفكر القومي الروسي بمواصلة وإصرار.

فمعظم القوميين الشوفينيين الروس يعتقدون أن دولتهم وجدت لتكون امبراطوربة تضرب جذورها في التاريخ البعيد. وبالنسبة لهذه الطبقة السياسية والاجتماعية التي تؤمن بالعودة الحتمية للإمبراطورية الروسية، تعتبر العديد من الجغرافية المجاورة جزءاً لا يتجزأ من أرض هذه الامبراطورية، بل ويرون أن أوكرانيا هي جزء من هذا المفقود الذي يجب استعادته.

وفي ضوء هذه الدوغماتية السائدة فإن مناقشة مستقبل روسيا لن تكتمل دون الإدراك أن روسيا تحمل تحت جناحيها مهمة “أورثودوكسبة” يجب اتمامها وحمايتها والدفاع عن بقائها. وهذه المهمة ستكون المرجعية والمستند العقائدي لتبرير السياسة الخارجية وسلطة الدولة، بل وتشكّل أيضاً جامعاً قوياُ يلتف حوله أفراد الشعب بوصفها أيديولوجية تربطهم بقوة بدولتهم وتمنع الخروج عن صراطها. وهذا ما نسج عليه بوتين بحرفية ودهاء سياسي بليغ لشرعنة جلّ مغامراته السياسية والعسكرية معتمدة إلى مرجعية الكنيسة ومباركتها، ومستعيناً بنفحة الحس الشوفيني المتعاظم.

ولم يخف بوتين هذه النزعة في أدائه الرئاسي وقراراته الانفرادية، وها هي الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو تصدر بعد أسبوعين من قرار بوتين بإرسال قوات إلى سوريا العام 2015 لدعم رأس النظام السوري في هجمته على شعبه خلال أحداث ثورة التغيير الشعبية، وتعبر فيه عن دعم الكنيسة المطلق لقرار الرئيس بوتين شنّ غارات جوية في سوريا، بل وتصف هذا التدخل الأجنبي في دولة مستقلة وذات سيادة بصفة “المعركة المقدسة”!

وفي ضوء استتباب الأمر لعقيدة القيصر الجديد، فلاديمر بوتين، يبدو من الواضح إلى أنه ليس من المحتمل أن نرى تقارباً جدّياً بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة على المدى القريب، بل أن العلاقات لن تكون ودّية أو سلسلة بين الدولتين في أغلب الأحيان. فبوتين يرى في روسيا النموذج الأخير في العالم الذي يحمل القيم التقليدية ويدافع عنها من “غزو الفساد القادم من أميركا والغرب” كما يرّوج داخلياً لحصد الشعبية والتأييد. وهكذا، وبعد مرور ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي يبدو أن الصدام بين قيم الغرب وثوابت العقيدة الروسية يعود إلى الواجهة من جديد، أكثر سخونة والتهاباً، ولاسيما في مواقع تضارب المصالح في القلب من الشرق الأوسط الذي يصبّ غليانُه السياسي الزيت على النار المستعرة أصلاً.

فصل المقال يكمن في حيثيات زعامة بوتين لروسيا الاتحادية، وقوة الدوغما الجديدة التي هي خلطة عقائدية من الدينيّ والقوميّ، حيث يعمل بوتين باستمرار على تحقيق الإجماع الشعبي والالتفاف حولها بهدف دعم سلطته واستمرار طبقته الحاكمة في إعادة إحياء الإمبراطورية والتسليم للإمبراطور الجديد بغير منازع أومعترض أومجادل.

وهكذا ستعكس البوتينية بشكل ثابت مفهوم النظام الأوليغاركي الأحادي الذي يمثّل مصالح مجموعات بعينها تنتمي بمنافعها إلى الدائرة الضيقة للرئيس، وهذا النظام يقوم على آليات السلطة الرأسية العامودية، ما يعني ببساطة مجموعة من الأوامر المطلقة تنطلق مباشرة من الأعلى نحو الأسفل.

رابط المقال في نسخته الأولى الورقية على موقع العرب الدولية: البوتينيّة “العمودية” في مواجهة آفاق الغرب

مرح البقاعي

مستشارة في السياسات الدولية، صحافية معتمدة في البيت الأبيض، ورئيسة تحرير منصة .’البيت الأبيض بالعربية’ في واشنطن
زر الذهاب إلى الأعلى