
الأسد الصاعد على إيران
الاستماع للمقال صوتياً
|
د. عبيد الله برهاني
شهدت الساحة الإقليمية فجر الثالث عشر من يونيو 2025 تطورًا عسكريًا غير مسبوق حين شنت إسرائيل عملية جوية واسعة النطاق استهدفت مواقع ومنشآت إيرانية حساسة ذات طابع أمني وعسكري ونووي. العملية من حيث الحجم والدقة وعدد الغارات المنفذة في وقت محدود، شكلت سابقة نوعية في سياق الاشتباكات غير المباشرة بين الجانبين، وطرحت جملة من الأسئلة حول موازين القوى وأسس الأمن الإقليمي.
المعطيات الأولية تشير إلى أن الضربة لم تكن مباغتة بشكل كامل لإيران، إذ سبقتها تصريحات متبادلة وتحذيرات من إمكانية تصعيد عسكري. كما أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين قبل ساعات من العملية كانت تعكس علمًا مسبقًا بوجود تهديد جدي، الأمر الذي يشير إلى أن توقيت العملية كان متوقعًا إلى حد كبير. رغم ذلك، فإن حجم العملية واتساع أهدافها الجغرافية ونجاحها في تحقيق اختراق أمني لافت، أظهر فجوات حقيقية في منظومة الدفاع الجوي والاستخباري الإيراني.
تميّزت العملية باستخدام تكتيك استهداف مراكز القيادة والسيطرة في الدقائق الأولى، وهو أسلوب سبق أن استخدمته إسرائيل في مواجهات سابقة مع أطراف إقليمية أخرى. استهداف قيادات رفيعة المستوى، بينهم مسؤولون أمنيون وعسكريون، في توقيت متزامن وفي أماكن متفرقة، يكشف عن مستوى دقيق من المعلومات الاستخبارية، ويعكس حجم اختراق غير تقليدي للبنية الأمنية الإيرانية.
تأثرت منشآت بالغة الحساسية كمنشأة نطنز النووية بشكل واضح، رغم أنها كانت توصف مرارًا بأنها محصنة بالكامل. استهداف المنشأة وتكرار الضربات عليها يشير إلى أن العملية حملت أهدافًا مزدوجة، تقنية ورمزية، إذ أرادت أن توجه رسالة تتعلق بإمكان تجاوز التحصينات التقليدية، وفرض معادلات ردع جديدة.
وفي سياق موازٍ، يبرز بوضوح أن المناوشات العسكرية الباكستانية–الهندية مؤخرًا، والتي اعتُبرت ميدان اختبار ميداني لتكنولوجيا التسليح الصينية المستخدمة من قِبل بعض الأطراف الإقليمية، قد أظهرت محدودية فاعلية تلك الأنظمة في بيئة اشتباك معقّدة. وفي المقابل، جاءت العملية الإسرائيلية لتؤكد تفوق القدرات العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية، المدعومة بدعم غربي متقدم، في تنفيذ عمليات دقيقة وعالية المخاطرة بهذا المستوى من التعقيد. هذه الواقعة أرسلت رسالة واضحة بأن موازين القوى التقنية والعسكرية في المنطقة لا تزال تميل لصالح محور إقليمي ـ غربي متفوق تقنيًا واستخباريًا، وأن الرهان على تكنولوجيا بديلة لم يثبت فاعليته حتى اللحظة.
رد الفعل الإيراني اتسم بالارتباك في الساعات الأولى، حيث لم يصدر موقف رسمي واضح إلا بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات على بدء العملية، وهو ما يثير تساؤلات حول الجاهزية الميدانية والقدرة على احتواء الأزمات الطارئة في توقيت حرج. الاعتماد على الإعلام الرسمي في نقل معلومات محدودة عن المواقع المستهدفة والخسائر يعكس تحفظًا سياسيًا واضحًا وإدارة حذرة للمعلومات.
على المستوى الدولي، لوحظ غياب مواقف إدانة أو استنكار واضحة، ما يعكس واقع توازنات القوى العالمية في القضايا الإقليمية، ويدل على وجود توافق ضمني على ترك هامش من حرية الحركة لبعض الأطراف الإقليمية في إطار ترتيبات أمنية غير معلنة. التصريحات الأمريكية التي نفت المشاركة المباشرة في العملية، رغم الترجيحات بوجود تنسيق سياسي وعسكري واستخباراتي، تندرج ضمن إدارة التوازنات الدقيقة في المنطقة، ومحاولة منع التصعيد الواسع مع المحافظة على مخرجات العملية في بعدها الاستراتيجي.
فيما يتعلق بالخيارات الإيرانية، يظل الرد العسكري المباشر عالي الكلفة، في ظل تفاوت القدرات والقيود المفروضة على قواعد الاشتباك. كما أن استهداف منشآت استراتيجية إسرائيلية ذات طابع نووي، كمفاعل ديمونا، قد يفتح باب مواجهة شاملة لا تبدو طهران في موقع مناسب لتحمل تبعاتها في الظرف الراهن. بالمقابل، قد تلجأ طهران إلى استخدام أدواتها غير التقليدية أو الأذرع الإقليمية لخلق مساحات ضغط، ضمن معادلة ردع غير متوازية.
في المحصلة، تعكس العملية تحولًا في قواعد الاشتباك، ورسائل مزدوجة تتعلق بقدرات الاختراق الاستخباري والتكتيكي، وبمحدودية منظومات الدفاع التقليدية في مواجهة ضربات معقدة من هذا النوع. من المتوقع أن تدفع هذه العملية الأطراف الإقليمية إلى مراجعة معادلاتها الأمنية، خاصة ما يتعلق بتأمين المنشآت الحساسة ومراكز القيادة، مع احتمال بروز تصعيدات متفرقة أو ردود محسوبة خلال الفترة المقبلة.
بصرف النظر عن الانتماءات أو المواقف السياسية، تبقى هذه الواقعة مؤشراً على تصاعد حجم المخاطر المرتبطة بإدارة الأزمات في المنطقة، وتعقيد المشهد الأمني الإقليمي في ظل تضارب المصالح وتداخل الأدوار الدولية.
تشكل العملية الجوية الإسرائيلية في 13 يونيو 2025 نقطة تحول في الأمن الإقليمي، تعكس تغيرات جوهرية في موازين القوة وطبيعة الصراع. وتبرز الحاجة الملحة لإعادة تقييم آليات الردع وإدارة الأزمات لضبط التصعيد. تبقى المنطقة أمام مفترق حاسم بين مزيد من الانزلاق في دوامة التصعيد أو السعي لصياغة توازنات جديدة تعكس واقع القوة وتحافظ على الأمن والسلم الإقليميين. إيران، بعد الضربات الموجعة والتصريحات الغربية الواضحة بالتهديد، ستعيد حساباتها بعناية قبل أي رد، مما يزيد من تعقيد المشهد ويدعو إلى مزيد من الحذر وضبط النفس من جميع الأطراف. المرحلة الجديدة تتطلب من الأطراف العمل بحذر ومسؤولية لتجنب تداعيات أوسع وتحقيق استقرار مستدام في المنطقة.