
أوكرانيا والواقعية السياسية
الاستماع للمقال صوتياً
|
نيويورك – مقال الرأي
بقلم رولا القط
لا يمكن المرور على موقف دونالد ترامب من الحرب الروسية الأوكرانية بوصفه مجرد تفصيل انتخابي، أو تصريح عابر على منصة مشحونة بالشعبوية. ما يقوله ترامب اليوم هو مرآة لتيار أعمق يُعيد تعريف الذات الأميركية، ويختبر حدود الواقعية السياسية في لحظة تشظي النظام الدولي.
من الالتزام إلى المقايضة ،حين يتحدث ترامب عن أوكرانيا، فإنه لا يراها ساحة صراع أخلاقي بين الديمقراطية والاستبداد، بل ملفًا يخضع للمنطق الصافي للربح والخسارة. لا مجال – في منظوره – للدخول في حروب لا تُترجم إلى مكاسب مادية أو نفوذ واضح. (أميركا أولًا)ليست شعارًا عابرًا، بل عقيدة تُقصي الأيديولوجيا لصالح صفقة محسوبة. ومن هنا، يبدو أن دعم أوكرانيا، في عهده، سيكون مشروطًا: لا مساعدات مجانية، بل استثمارات بغطاء جيوسياسي، كما تُشير اتفاقية الموارد المعدنية الأخيرة.
حترام لا يخلو من تحفّظ العلاقة بين ترامب وبوتين ليست علاقة تحالف، بل مساحة رمادية تتداخل فيها البراغماتية مع (الاحترام الاستراتيجي)لا يرى ترامب في موسكو عدوًا وجوديًا، بل خصمًا يمكن التفاوض معه ضمن صفقة كبرى، تتطلب – بوضوح – تنازلات أوكرانية مؤلمة. وهنا، يتقاطع المنظور الترامبي مع منطق القوة، لكنه يصطدم مباشرة بثوابت أوروبا الغربية والنهج الليبرالي التقليدي في واشنطن.
ما وراء الحرب المعركة مع (الدولة العميقة)ليست مواقف ترامب من أوكرانيا معزولة عن معركته الطويلة مع مؤسسات الحكم في بلاده، تلك التي يُطلق عليها “الدولة العميقة”البيروقراطيات الأمنية والعسكرية التي ترى في احتواء روسيا أولوية استراتيجية لحماية النظام العالمي الليبرالي. ترامب، بالمقابل، يُعيد رسم هذا المنطق، ويحاول انتزاع السياسة الخارجية من قبضة العسكر والاستخبارات، ليُدخلها في ميدان التفاوض الصريح، وإن كان صادمًا.
أوكرانيا: بلد أم ورقة تفاوض؟ في عيون ترامب، لا تبدو أوكرانيا كضحية تُناضل من أجل سيادتها، بل كورقة تُستعمل لإعادة تموضع أميركا في العالم. هي ساحة اختبار بين مدرستين: الواقعية السياسية التي تُعلّي كلفة الربح، والليبرالية الدولية التي ترى في القيم مرجعية. ولهذا، فإن إنهاء الحرب ليس بالضرورة نصرًا لأوكرانيا، بل فرصة لإعادة ترتيب طاولة النظام العالمي.
هل يمثل ترامب استثناءً أميركيًا، أم أنه مؤشر على تصدّع في البنية التقليدية للتفكير الاستراتيجي الأميركي؟ هل يعود لتقويض ثوابت، أم ليُعيد تأسيسها من جديد؟ مهما يكن الجواب، فإن أوكرانيا لن تكون فقط عنوانًا لصراع جيوسياسي، بل ميدانًا مفتوحًا لاختبار حدود الهيمنة، ومصير ما تبقى من قيادة أميركية لعالم يتغيّر بسرعة