آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

ترامب وبوتين في لحظة توتر جديدة

الاستماع للمقال صوتياً

سوريا – مقال ال رأي

د. مالك الحافظ

لا شيء عابر في وصف رئيس الولايات المتحدة نظيره الروسي بـ”المجنون”. فاللغة في هذا المستوى من السلطة تُستخدم لإعادة تشكيل المجال السياسي، ورسم معالم النزاع، وتحديد من يصلح للجلوس على طاولة التفاوض، ومن بات خطراً على النظام الدولي.

ما قاله دونالد ترامب يكشف عن تخلٍ واعٍ عن الرمزية السابقة التي أحاط بها علاقته بـ فلاديمير بوتين، ونقلة في المعجم السياسي الأميركي من توصيف الواقعية إلى تشخيص الخطر.

الرئيس العائد إلى البيت الأبيض يبني تصعيده على تعريف الطرف الآخر، بوصفه قوة غير قابلة للاحتواء إلا بالردع أو العزل. لحظة تُعيد فيها واشنطن ضبط تموضعها تجاه موسكو، لا بمنطق العقوبات فقط، إنما بمنطق نزع الشرعية الخطابية، حيث الكلمات تقاس هنا بمقدار تأثيرها على إعادة ترتيب موازين الردع في ظل نزاع تجاوز حدود الحرب التقليدية، وأوشك أن يتحوّل إلى صراع على مفهوم العقل نفسه في إدارة القوة.

ما يجعل هذه اللحظة مفصلية؛ة هو السياق الذي جاءت فيه؛ رئيس أميركي يتحدث خلال تصاعد الهجمات الروسية على المدن الأوكرانية، بينما المفاوضات بين موسكو وكييف تراوح مكانها، والعالم في لحظة احتقان استراتيجي غير مسبوقة منذ الحرب الباردة. فما الذي يعنيه أن يقول ترامب عن بوتين: “لقد أصبح مجنوناً تماماً”؟ وما الذي يدفعه إلى التصعيد الكلامي مع شريك كان يصفه بالقوي والذكي؟ وما هي الرسائل المشفّرة داخلياً وخارجياً في هذا النوع من الخطاب؟

خلال ولايته الرئاسية الأولى (2017–2021)، لطالما تميزت علاقة ترامب ببوتين بنوع من التفاهم البراغماتي، الممزوج بإعجاب ضمني أحياناً بقدرة الزعيم الروسي على فرض سلطته، بحسب وصف ترامب ذاته. لكن ترامب في ولايته الثانية يبدو وكأنه يعمل على تفكيك الصورة القديمة التي رسمها بنفسه لبوتين، ليس بهدف تصفية الحسابات، بل على الأرجح كخطوة ضرورية لإعادة بناء خطابه العالمي، وإعادة تقديم نفسه أمام الرأي العام الأميركي والدولي كفاعل حازم غير متساهل.

يمكن فهم هذه النقلة عبر ما تسميه الدراسات في علم السياسة بـ”إعادة تعريف التحالف الرمزي” أي حين لا يعود الشريك السابق متماشياً مع سردية الدولة الكبرى، فيُعاد تأطيره خطابياً إما بوصفه خصماً، أو بعبارات سلبية تتيح التمايز وتبرر التحوّل.

لا يمكن قراءة المصطلح حرفياً، فترامب، المعروف بتكتيكاته الخطابية الحادة، يستخدم هذا التوصيف كأداة تفكيك رمزي لشخصية بوتين أمام الرأي العام. وهذا يتسق مع مفاهيم مثل “الوصم السياسي” التي يلجأ إليها القادة لإعادة ضبط العلاقة مع خصمهم، وتحميله مسؤولية الانزلاق في مسار غير عقلاني.

هذا التوصيف يعيد بوتين إلى مربع الزعيم غير القابل للتفاوض، وهو ما يعطي إدارة ترامب، مبرّراً استراتيجياً لتصعيد الضغوط الدبلوماسية وربما الاقتصادية على روسيا، مع الإبقاء على إمكانيات التفاوض قائمة عبر وسطاء.

من الخطأ أيضاً أن يُفهم هذا التصريح فقط ضمن السياسة الخارجية. فترامب، يعيد تقديم نفسه داخلياً على أنه زعيم لا يتردد في اتخاذ مواقف حازمة حتى من “الأصدقاء القدامى”، في حال تجاوزوا الخطوط الحمراء. وهو بذلك يوصل رسالة إلى الكونغرس، والجيش، والناخبين الجمهوريين المعتدلين بأنه لا يقل تشدداً عن أي إدارة ديمقراطية في مواجهة التوسّع الروسي.

على المستوى الدولي، تعكس تصريحات ترامب محاولة مدروسة لنزع الغطاء الرمزي عن موسكو وإعادة تعريف موقعها في إدراك الحلفاء والخصوم على السواء. فهي توجه رسالة واضحة إلى العواصم الأوروبية بأن الولايات المتحدة عادت إلى الحزم الاستراتيجي، لكن هذه المرة ليس عبر اللغة المؤسسية التقليدية للناتو، بل عبر خطاب ترامبي مباشر، يخرج بوتين من خانة “الخصم القابل للتفاوض” إلى فاعل غير عقلاني يهدد استقرار النظام الدولي.

في الاتجاه المقابل، تصل الرسالة إلى موسكو نفسها، بأن العلاقة لن تُستأنف وفق القواعد القديمة، وأن واشنطن، وإن أبقت على قنوات الاتصال مفتوحة، فلن تكون منصة لإعادة تأهيل بوتين دولياً ما دام يُصرّ على استمرار الحرب على أوكرانيا. أما بكين، التي تراقب مسار التصعيد من موقع الشريك الاقتصادي والحليف الحذر، فستقرأ في هذا التصريح مؤشراً إلى أن واشنطن ما زالت قادرة على تسمية الأشياء بأسمائها، وإعادة اصطفاف خطوطها الحمراء، حتى عندما تكون المعادلات الجيوسياسية معقّدة ومتشابكة.

رغم حدة التصريح، فإن إدارة ترامب لا تبدو بصدد قطيعة كاملة مع روسيا، هذا الأسلوب لا يهدف إلى المواجهة المفتوحة، إنما إلى إعادة تشكيل ميزان الردع والخطاب في آنٍ معاً، وهي استراتيجية متكررة في عقلية ترامب السياسية، التي ترى أن التحوّل في الخطاب هو أحد أدوات فرض واقع سياسي جديد، دون الحاجة إلى اشتباك مباشر.

د. مالك الحافظ

كاتب صحفي وباحث أكاديمي سوري، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، ودرجة الماجستير في الإعلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى