أبرز العناوينمقال الرأي

الوساطة الصينية.. استقرار أم مناورة؟

الاستماع للمقال صوتياً

كاليفورنيا – مقال الرأي

الدكتور عبيد الله برهاني 

تشهد الساحة الدولية تحولات متسارعة في موازين القوى والنفوذ، مع بروز الصين كلاعب محوري يسعى إلى إعادة صياغة معادلات النظام العالمي وفقًا لرؤيتها ومصالحها الاستراتيجية. في هذا السياق، برزت الوساطات الصينية في عدد من النزاعات الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط، آسيا الوسطى، وجنوب آسيا، كإحدى أدوات سياستها الخارجية التي أثارت تساؤلات حول الأبعاد الحقيقية لهذه التحركات.

هل تمثل هذه الوساطات مسعى صينيًا صادقًا لترسيخ الاستقرار الإقليمي؟ أم أنها في جوهرها انعكاس لحسابات جيو-اقتصادية وجيو-سياسية دقيقة تستهدف توسيع نطاق النفوذ الصيني وفرض معادلات جديدة في مناطق نفوذ تقليدية للقوى الغربية؟

يأتي هذا التحليل لمقاربة أبعاد الوساطة الصينية وتداخلها مع ديناميكيات التنافس الدولي، ومدى قابليتها للنجاح دون تفاهمات مسبقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وشبكة حلفائها الإقليميين.

الدوافع المعلنة والخفية للوساطة الصينية

رغم الخطاب الرسمي الصيني الذي يروّج لدور بكين كـ”صانع سلام” في أقاليم الأزمات، تشير القراءة التحليلية إلى أن هذه التحركات تنطوي على أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية متداخلة. وتسعى الصين من خلالها إلى ترسيخ مكانتها كقوة دولية مسؤولة، تقدم بدائل سلمية لإدارة النزاعات، في إطار رؤيتها لتعزيز الأمن والتنمية المشتركة، بما ينسجم مع مبادرة -الأمن العالمي- التي طرحها الرئيس شي جين بينغ، في مقابل السياسات الأحادية والتدخلات التقليدية.

         ١-تولي الصين أهمية خاصة لاستقرار الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، باعتبارهما مصدرين حيويين للطاقة وركيزتين أساسيتين لمبادرة “الحزام والطريق”. وتسعى بكين إلى تأمين الممرات الاقتصادية عبر توظيف الوساطة والدبلوماسية، لضمان بيئة سياسية وأمنية مواتية لمشروعاتها. غير أن المبادرة تواجه تحديات أمنية، خاصة في باكستان، حيث تعكس العلاقة بين الجانبين تعقيدات لا تنسجم دائمًا مع الصورة الوردية المتداولة، في ظل تنامي الحضور الدولي والمنافسة على النفوذ في الإقليم.

٢-سعت الصين إلى استثمار تراجع النفوذ الأميركي لتعزيز حضورها الجيوسياسي وكسب مواقع مؤثرة، كما في وساطتها بين السعودية وإيران عام 2023، غير أن عودة الحضور الأميركي المتجدد في الشرق الأوسط أربك حسابات بكين وأعاد رسم توازنات الإقليم.

         ٣-بناء شراكات استراتيجية مع قوى إقليمية مؤثرة: توظف الصين وساطاتها كوسيلة لتطوير شراكات أمنية واقتصادية مع دول المنطقة، مما يمنحها مساحة تأثير متقدمة في مواجهة خصومها الدوليين، ويوفر لها منصات إقليمية داعمة لمصالحها.

         ٤-احتواء التهديدات الأمنية العابرة للحدود: يُمثل خطر الإرهاب والاضطرابات الأمنية في آسيا الوسطى وجنوب آسيا تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الصيني، لا سيما في إقليم شينجيانغ. لذا تعمل بكين على تسوية النزاعات والحد من تداعياتها الأمنية.

         ٥-ضمان استقرار أسواق الطاقة: في ظل كونها أكبر مستورد للنفط من منطقة الشرق الأوسط، تولي الصين أهمية بالغة لاستمرارية تدفق الطاقة واستقرار أسواقها لحماية أمنها الطاقوي.

 أمثلة للوساطة الصينية

         الاتفاق السعودي-الإيراني (2023): رعت الصين محادثات معقّدة بين الرياض وطهران، أفضت إلى اتفاق تاريخي يهدف إلى تهدئة الخليج وتأمين خطوط النقل البحرية ضمن مسارات الحزام والطريق.

         وساطتها في الأزمة الأفغانية: عقب انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، سارعت الصين إلى فتح قنوات مباشرة مع حركة طالبان، مستهدفة تأمين استثماراتها وممراتها الاقتصادية نحو جنوب آسيا، واحتواء خطر انتقال الفوضى إلى إقليم شينجيانغ. في مايو 2025، استضافت بكين اجتماعًا ثلاثيًا غير رسمي جمع بين وزيري خارجية الصين وباكستان والقائم بأعمال وزير خارجية أفغانستان، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية. شكّلت هذه المبادرة محاولة صينية لملء الفراغ الدبلوماسي وتعزيز شراكاتها الثنائية.

التحديات المستقبلية

رغم الزخم الدبلوماسي للوساطة الصينية، تظل التحديات الأمنية والجيوسياسية قائمة وتعيق تنفيذ مشروعات بكين الحيوية. الأزمات الإقليمية متجذرة بعوامل معقدة يصعب تجاوزها بتسويات سطحية، لا سيما في ظل غياب تفاهم واضح مع القوى الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة، ما يحد من فرص التسويات المستدامة.

ويظل وجود روسيا عاملاً مؤثرًا يزيد من تعقيد التوازن الجيوسياسي، بينما تعمق التوترات الحدودية بين باكستان وأفغانستان الشكوك المتبادلة، وسط ثبات السياسات الأمنية الباكستانية. وفي الوقت نفسه، تتبع الهند سياسة حذرة لحماية مصالحها في المنطقة، وتسعى إيران لتعزيز التعاون مع الصين في مجالات الطاقة والبنية التحتية، رغم علاقاتها المعقدة مع واشنطن والتوترات الإقليمية.

هذه العوامل مجتمعة تشكل تحديات حقيقية أمام مبادرة “الحزام والطريق” وتتطلب إدارة دقيقة وحذرة للمصالح المتداخلة والتعقيدات الجيوسياسية.

فصل المقال أنه يمكن التأكيد أن الوساطة الصينية تشكل في جوهرها أداة دبلوماسية استراتيجية، توظفها بكين لتحقيق قدر من الاستقرار النسبي، بما يتوافق مع مصالحها الجيو-اقتصادية، ويعزز حضورها كقوة موازية ومنافسة للغرب في الساحة الدولية. ورغم ما تحققه بعض هذه الوساطات من نجاحات تكتيكية، فإن هشاشة البيئة الإقليمية وتعقيد توازنات القوى الفاعلة يُبقيان احتمالات الوصول إلى تسويات شاملة ودائمة أمرًا بالغ الصعوبة.

وفي ظل ثبات الذهنية الأمنية الباكستانية وعدم حدوث أي تحوّل جوهري في سياساتها الإقليمية، تبقى فرص تحقيق توافقات مستقرة محدودة، وهو ما يضاعف من تحديات المرحلة المقبلة. وإذا ما استمرت الولايات المتحدة وحلفاؤها في تبنّي سياسات الانكفاء أو التعامل بقدر من التجاهل مع قضايا المنطقة على خلاف ما يدعو إليه عدد من دوائر القرار الرصينة في واشنطن ومعظم العقلاء الإستراتيجيين فإن ذلك سيفتح المجال أمام الصين لملء الفراغات السياسية والأمنية، ليس في أفغانستان وحدها، بل في عموم الإقليم.

تفرض هذه المعادلة الحرجة على القوى الدولية مسؤولية عاجلة لمراجعة مقارباتها وتعزيز حضورها الدبلوماسي الفاعل، لمنع هيمنة أحادية تعيد رسم خرائط النفوذ في قلب آسيا، وتفتح الباب أمام تحديات أمنية واستقرار إقليمي ودولي خطيرة على المدى الطويل.

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني

‫2 تعليقات

  1. China has strategically secured a broad range of long-term agreements to support its energy and geopolitical needs, with planning horizons extending to around 2049, the centenary of the People’s Republic. Key regional players like Russia, Pakistan, and Iran are central to this strategy, providing China with vital access to energy resources, trade corridors, and security partnerships. While these projects face significant challenges from sanctions and debt sustainability to political unrest Beijing has been deliberate in “ticking the boxes” that could have slipped into the hands of rival powers had it not acted quickly.
    China is closely monitoring developments in the South China Sea and across the international stage, navigating an increasingly complex geopolitical landscape. Its strategy is not one of rapid expansion or confrontation, but a gradual, calculated projection of influence built through economic leverage, diplomacy, and infrastructure investment.
    At the same time, China is acutely aware of the presence of extremist ideologies, including ISIS-like pockets, in regions surrounding its borders. Beijing is working to position itself as a bridge between ideologically opposed forces be they local adversaries or their international backers. This includes reconciling its foreign policy with its domestic approach to religious minorities, in an effort to reduce vulnerability to radicalization and instability. These efforts are not only preventive but are also intended to fortify internal cohesion and prepare for countermeasures where weaknesses might be exploited drawing heavily on lessons from the collapse of the Soviet Union, where ethnic and ideological fragmentation led to systemic failure.
    China’s recent explicit support for Palestinian sovereignty signals a broader shift in its global posture. No longer content to remain a silent observer, Beijing is beginning to assert its worldview in a rapidly evolving multipolar order a world where the old norms of strategic dominance and political policing are increasingly contested. Though fraught with risk, China’s approach reflects long-term thinking: measured, adaptive, and intent on shaping not just responding to the emerging global system.

    China’s Long March to 2049: Strategy, Security, and Global Influence https://kabultimesblog.wordpress.com/2025/05/26/chinas-long-march-to-2049-strategy-security-and-global-influence/

  2. أبرمت الصين استراتيجيًا مجموعة واسعة من الاتفاقيات طويلة الأجل لدعم احتياجاتها من الطاقة والجيوسياسية، مع آفاق تخطيط تمتد إلى حوالي عام 2049، الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وتُعدّ جهات فاعلة إقليمية رئيسية، مثل روسيا وباكستان وإيران، محورية في هذه الاستراتيجية، إذ تُتيح للصين وصولًا حيويًا إلى موارد الطاقة والممرات التجارية والشراكات الأمنية. وبينما تواجه هذه المشاريع تحديات كبيرة، بدءًا من العقوبات واستدامة الديون وصولًا إلى الاضطرابات السياسية، تعمدت بكين “وضع علامة صح” في المربعات التي كان من الممكن أن تتسرب إلى أيدي القوى المنافسة لو لم تتحرك بسرعة.

    تراقب الصين عن كثب التطورات في بحر الصين الجنوبي وعلى الساحة الدولية، مُبحرةً في مشهد جيوسياسي متزايد التعقيد. ولا تقوم استراتيجيتها على التوسع السريع أو المواجهة، بل على إسقاط تدريجي ومدروس للنفوذ، مبني على النفوذ الاقتصادي والدبلوماسية والاستثمار في البنية التحتية.
    في الوقت نفسه، تُدرك الصين تمامًا وجود أيديولوجيات متطرفة، بما في ذلك جيوب شبيهة بتنظيم داعش، في المناطق المحيطة بحدودها. وتعمل بكين على ترسيخ مكانتها كجسر بين القوى المتعارضة أيديولوجيًا، سواءً أكانت خصومًا محليين أم داعمين دوليين. ويشمل ذلك التوفيق بين سياستها الخارجية ونهجها المحلي تجاه الأقليات الدينية، سعيًا للحد من التعرض للتطرف وعدم الاستقرار. ولا تقتصر هذه الجهود على الجانب الوقائي فحسب، بل تهدف أيضًا إلى تعزيز التماسك الداخلي والاستعداد لتدابير مضادة قد تُستغل فيها نقاط الضعف، مستفيدةً بشكل كبير من دروس انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أدى التشرذم العرقي والأيديولوجي إلى فشل منهجي.

    يشير دعم الصين الصريح الأخير للسيادة الفلسطينية إلى تحول أوسع في موقفها العالمي. فلم تعد بكين تكتفي بالوقوف مكتوفة الأيدي، بل بدأت تُؤكد رؤيتها للعالم في ظل نظام متعدد الأقطاب سريع التطور، عالمٌ تُصبح فيه المعايير القديمة للهيمنة الاستراتيجية والرقابة السياسية موضع نزاع متزايد. ورغم المخاطر المحفوفة بها، فإن النهج الصيني يعكس تفكيراً طويل الأمد: مدروساً، وقادراً على التكيف، وعازماً على تشكيل النظام العالمي الناشئ وليس مجرد الاستجابة له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى