آخر التحديثاتأبرز العناوينثقافات

فيلم The Assessment الإنجاب تحت المراقبة

الاستماع للمقال صوتياً

القاهرة – ثقافات

بقلم أحمد المسيري

تعتبر غريزة الأبوة والحق في الإنجاب حق طبيعي وأصيل للزوجين، ولكن ماذا لو تم وضع هذا الحق تحت الوصاية فتحول إلى أمنية صعبة المنال؟

سيقفز هذا التساؤل إلى ذهنك عندما تشاهد فيلم (The Assessment)، وهو دراما خيال علمي عرض لأول مرة في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي عام 2024، والفيلم من إخراج “فلور فورتيني” في أول تجربة إخراجية لها لفيلم روائي طويل، والفيلم من بطولة “إليزابيث أولسن”، و“أليشا فيكاندر”، و“هيميش باتيل”.

يأخذنا الفيلم في رحلة مخيفة إلى مستقبل ضبابي تفرض فيه الحكومة قيودًا صارمة على عملية الإنجاب، حيث يُطلب من الآباء المحتملين الخضوع لاختبار تقييم عن طريق تعيين الحكومة ممثلًا رسميًا للإقامة معهم لمدة سبعة أيام لتحديد ما إذا كانوا مؤهلين ليصبحوا والدين أم لا، وتدور أحداث الفيلم حول الزوجين “ميا” وتلعب دورها “إليزابيث أولسن”، عالمة نباتات تعمل على إيجاد حلول بديلة لتعويض النقص في الغذاء، و”آريان” الذي يجسد دوره “هيميش باتيل”، عالم في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يصمم نماذج محاكاة لحيوانات أليفة تبدو حقيقية لتحل محل الحيوانات الحقيقية التي قام النظام بقتلها، وتتسبب رغبتهما في إنجاب طفل للخضوع لتقييم من قِبل “فيرجينيا”، وهي ممثلة النظام الحكومية المكلّفة بالإقامة معهما لمراقبتهما، وتؤدي دورها “أليسيا فيكاندر” فيحوّل وجودها حياتهما إلى كابوس. 

ليس كل مانراه مثالي هو مثالي

تعطيك المشاهد الأولى انطباعًا بأنك في عالم مثالي قائم على التكنولوجيا المتقدمة، ولكن سرعان ما يتسلل إليك شعور بعدم الارتياح، عندما تكتشف أن هذا العالم المثالي الظاهري يخفي ورائه عالمًا ديستوبيًا مخيفاً ومعزولاً تحت قبة من الطاقة، فهو عالم قائم على نظام تمييز وفصل طبقي وعنصري أدى إلى وجود عالمين أحدهما جديد يبدو منظماً ويخضع أفراده تحت وصاية النظام، والأخر قديم لا نعلم عنه أو عن أفراده شيء غير أنه عالم بدائي وملوث، ورغم ادعاء النظام المثالية في هذا العالم الجديد إلا أنه يعاني من نقص شديد في الغذاء، ممى أدى إلى لجوء الحكومة إلى إعدام جميع الحيوانات الأليفة لتوفير الطعام، فهو عالم تشعر فيه ببرودة المشاعر، لا ترى فيه حيوانات أليفة ولا أطفالًا صغارًا، حيث كل شيء خاضع لمراقبة صارمة تصل إلى حد الوصاية على أدق تفاصيل الحياة.

توظيف جيد للعناصر السينمائية والرمزيات 

نجحت المخرجة في أن تجعل المُشاهد يشعر بالتوتر والاختناق طوال الوقت، فعالم بطلة العمل “ميا” والتي تعكس تصرفاتها أنها تتوق إلى الحرية محاصر بقبة من الطاقة وكأنه محبوس داخلها، كما أنها تعيش مع زوجها في منزل معزول تحيط به مساحات فارغة شاسعة، لا شيء فيه سوى البحر والصخور والرمال في دلالة قوية على الحصار والعزلة، وهو شعور تعززه الموسيقى التصويرية المشحونة بالقلق والتوتر، بالإضافة إلى الإضاءة الباهتة مثل العالم الذي يعيشون فيه، وكان الأداء التمثيلي لطاقم العمل من أكثر العناصر المميزة للفيلم، وكان الأداء الأصعب من نصيب “أليسيا فيكاندر”، التي قدمت شخصية مركبة لامرأة متحكمة، صارمة، خالية من المشاعر، فهي ليست إلا تجسيداً للسلطة التي تدعي أنها ذات النوايا الحسنة، فهي تبدو هادئة، عقلانية، متزنة ولكن في واقع الأمر تخفي وراء هذا الكثير من الرعب والغموض والتصرفات الجنونية الكفيلة بتدمير حياة الأشخاص ودفعهم إلى الجنون. 

قصة خيالية بصدى واقعي

رغم أن الفيلم خيالي، ولكنه يتقاطع في بعض الأحيان مع واقعنا المعاش ومدى توظيف الأنظمة التكنولوجيا، وتوجيه الإنجاب وفقًا للاحتياجات السياسية، فعلى سبيل المثال في الصين، أوقفت الحكومة فرض سياسة الطفل الواحد التي تم تنفيذها بين عامي (1980-2015) للحد من التنامي السكاني، وأتجهت إلى تشجيع الأسر على إنجاب مزيد من الأطفال على أمل إبطاء وتيرة شيخوخة المجتمع، حيث قامت برفع شعار (إنجاب الأطفال من أجل البلاد)، وقد لاقت هذه السياسات انتقادات واسعة واعتبرها البعض سياسات متطفلة، وفي الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا، يُستخدم الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة مثل رعاية الأطفال والتبني، حيث تعالج هذه الأنظمة البيانات الشخصية للأفراد كالدخل، والتعليم، والحالة الإجتماعية، والتاريخ الجنائي، والتقارير النفسية، وحتى التفاعلات على وسائل التواصل الإجتماعي لتحديد مدى إستعدادهم لرعاية طفل.

ومن جهة آخرى تستخدم بعض الوكالات التقنيات الحديثة للذكاء الاصطناعي لتقييم الأهلية للإنجاب أو التبني كما ذكرنا سابقاَ، وهذه التقنيات الحديثة لا تحرم الأفراد بشكل مباشر من الحق في الإنجاب، لكنها تشكل تصور المجتمع عمن هو مؤهل ليكون والدًا، وقد أثارت هذه الاستراتيجية مخاوف أخلاقية، متعلقة بالتحيزات العنصرية أو الطبقية المبنية على البيانات المدخلة، بالإضافة إلى انتهاك الخصوصية بسبب استخدام البيانات الشخصية، ومن جهة آخرى نزع الصفة الإنسانية من قبل التقييم القائم على الخوارزميات والبيانات المعالجة تكنولوجيا، ورغم المزايا التي تعود على هذه الاستراتيجية لتحديد أهلية الأسر الجديرة بالتبني أو الإنجاب وتجنب تعرض الأطفال للعنف أو الإهمال وبذلك فهي تعد وسيلة دعم حقيقية، ولكن الخط الفاصل بين الدعم والسيطرة هو خط هش ومخيف.

تيمات تثير المخاوف

لا يستطيع أحد أن ينكر الدور الكبير الذي تلعبه التكنولوجيا في تيسيير حياتنا على جميع المستويات، ولكن في المقابل سنلاحظ أن هذه التكنولوجيا عمقت من عزلة الفرد عن مجتمعه، وتسببت في الفتور العاطفي عند البعض، وفقدان الحميمية والمعنى الحقيقي للحياة.

وقد قام فيلم The Assessment بتصوير ذلك من خلال السماء المصطنعة، الطعام المصطنع، الحيوانات التي تم تصميمها بالذكاء الأصطناعي لتحاكي الحيوانات التي تم إعدامها، فهي تبدو في مظهرها وملمسها مثل الحيوانات الحقيقية ولكنها تفتقد إلى الإحساس والروح والمشاعر، على جانب آخر سيعمق الفيلم مخاوفك تجاه المستقبل ونتاج الحروب، والتلوث، ونقص الغذاء، كما استخدم الفيلم تيمات مختلفة مثل الوصاية، الرقابة، الكذب، التلاعب، الاستغلال، والخداع، والتي فجرت تساؤلات مقلقة حول ما المقابل الذي سندفعه للسعي خلف تحقيق مجتمع مثالي تقدمي؟ وهل تقوم التكنولوجيا حقاً بخدمتنا أم بأسرنا؟

وسواء إستطعنا أو عجزنا عن الإجابة عن هذه التساؤلات سينتهي بنا المطاف بتقدير قيمة الماضي والحاضر مهما كانا قاسيين.

أحمد المسيري

أحمد المسيري

باحث في علم الإجتماع السياسي والرأي العام ،والإعلام، كاتب وناقد سينمائي حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، الجنسية مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى