
بين كابول ودمشق: مساعٍ أميركية – خليجية لترسيم المسار
الاستماع للمقال صوتياً
|
كاليفورنيا – مقال الراي
الدكتور عبيد الله برهاني
في خضم التحولات الاستراتيجية التي تعصف بمنطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وعلى رأسها عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان عام 2021، يتبلور سؤال محوري حول قدرة الثالوث الخليجي، كل من السعودية وقطر والإمارات، على تحقيق انفراجة في هذا الملف الإقليمي والدولي المعقد بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية، حتى في ظل غياب اعتراف رسمي بحكومة الامر الواقع في كابول. تكشف المقاربات المتباينة التي تتبناها هذه الدول الخليجية لإدارة هذا الملف الحساس، خدمة لمصالحها الوطنية والإقليمية، عن تحركات لافتة في كل من أفغانستان وسورية -رغم التباين الجغرافي والسياسي بينهما تعكس طموحًا مشتركًا في إعادة تشكيل ملامح النفوذ الإقليمي وتعزيز قنوات تواصل بناءة مع القوى الدولية المؤثرة، عبر تبني سياسة انخراط مباشر تتسم بالحذر وتتجنب التعقيدات الرسمية للاعتراف.
اختلاف السياق… وتشابه أدوات الاحتضان
على الرغم من التباين الجوهري بين البيئتين السياسية والإقليمية في سورية وأفغانستان، فإنهما تشتركان في تعقيد المشهد الصراعي بتداخل الحسابات المحلية والإقليمية والدولية. فسورية تعد ساحة لتنافس مفتوح بين قوى دولية كبرى مثل روسيا وإيران وتركيا، بينما تحيط بأفغانستان بيئة إقليمية هشة يتصدرها التنافس بين باكستان وإيران، وسط مساعٍ حثيثة من قوى آسيوية والولايات المتحدة للتأثير في مستقبلها السياسي والاستراتيجي.
في هذا الإطار الجيوسياسي المعقد، تبنت الثالوث الخليجي (السعودية والإمارات وقطر) سياسة دبلوماسية متوازنة ومتوافقة مع توجهات الإدارة الأمريكية تجاه الملف الأفغاني، انطلاقًا من إدراكها العميق بأن ترك الساحة الأفغانية لقوى إقليمية أخرى قد ينطوي على تداعيات سلبية على مصالحها الاستراتيجية. علاوة على ذلك، فإن الروابط التاريخية الوثيقة، والحضور الاستثماري المتنامي، والتنسيق الأمني المشترك مع واشنطن في مكافحة الإرهاب، تجعل من التحرك الخليجي المدروس في أفغانستان خيارًا استراتيجيًا ذا أهمية قصوى.
لماذا يشكّل الملف الأفغاني أهمية استراتيجية للدول الخليجية؟
يكتسب الملف الأفغاني أهمية استراتيجية بالغة الأثر بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، وذلك لتداخل أبعاده الأمنية والاقتصادية بشكل وثيق مع مصالحها الإقليمية والدولية. ويمكن إيجاز هذه الأهمية في النقاط التالية
١-الحيلولة دون تحول أفغانستان إلى منطقة نفوذ حصري لقوى إقليمية أخرى، مما قد يؤثر سلبًا على التوازنات الاستراتيجية الإقليمية.
٢-إرساء حضور إنساني واقتصادي فاعل في كابول بهدف استباق أي توسع لنفوذ قوى إقليمية أو دولية أخرى.
٣-ضمان استقرار منطقة آسيا الوسطى وأمن خطوط إمدادات الطاقة والأسواق المالية والاقتصادية الحيوي .
٤- توظيف ملف أفغانستان كأداة في التفاهمات الإقليمية والدولية المتعلقة بالملفات ذات الاهتمام المشترك.
٥-حماية الاستثمارات الخليجية المحتملة في جهود إعادة الإعمار وتطوير البنى التحتية، مما يوفر أدوات نفوذ ناعم وموارد اقتصادية مستدامة.
٦-ملء الفراغ السياسي والأمني المحتمل في كابول، بما يحول دون تحولها إلى مركز استقطاب للجماعات المتطرفة.
فيما يخص الأدوار الخليجية، تسعى السعودية والإمارات لتقليل النفوذ الإقليمي غير المرغوب فيه وتعزيز الاستقرار، بينما تواصل قطر دور الوسيط النشط مستفيدة من خبرتها ,ومن دبلوماسيتها الناجحة مع كافة الأطراف الأفغانية لتعزيز مكانتها إقليميًا ودوليًا.
المرحلة المقبلة في أفغانستان
المرحلة المقبلة في أفغانستان تشهد تحركًا خليجيًا حذرًا ومتعدد القنوات. الإمارات وقطر تطلقان مبادرات محدودة في الزراعة والطاقة لتعزيز النفوذ الاقتصادي والإنساني. قطر تستضيف لقاءات بين طالبان وشخصيات أفغانية، مع الحفاظ على التوازن في العلاقات الخليجية. دول مجلس التعاون تسعى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية: السعودية تركز على احتواء النفوذ الإقليمي، الإمارات تهدف لبناء نفوذ طويل الأمد عبر المشروعات الاقتصادية، وقطر تسعى لتعزيز دورها كوسيط مقبول. الساحة الأفغانية تتحول إلى ميدان لتنافس خليجي متعاون يهدف لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. يمكن للسعودية والإمارات وقطر لعب دور محوري في تحقيق “إصلاح داخلي أفغاني” تدريجيًا عبر الأدوات الناعمة والمساعدات التنموية، لموازنة النفوذ الباكستاني–الإيراني. الإمارات تدير دورًا استثماريًا وإنسانيًا، السعودية تعزز العلاقات التاريخية، وقطر تحافظ على علاقاتها وتستضيف اجتماعات دولية. يمكن تأمين خطوط اتصال غير رسمية مع الغرب ورعاية حوار غير معلن بين طالبان والمكونات الاجتماعية والأكاديمية للوصول إلى حلول إصلاحية واقعية، مع تجنب الصدام مع طالبان وتحفيزها على تبني مرونة سياسية تدريجية. هذا التوجه يحظى بتأييد من بعض المنتديات المثقفين والديلوماسين الأفغان والتيارات الوطنية.
انفراجة محسوبة… بلا اعتراف
نظرًا للتعقيدات السياسية في الملف الأفغاني، تتبع دول الخليج مقاربة حذرة ومرنة دون الاعتراف الرسمي بحكومة طالبان، بهدف حماية مصالحها مع الحفاظ على تحرك دبلوماسي واسع. تتجلى هذه السياسة في عدة مسارات: إطلاق بعثات إنسانية بغطاء أممي لدعم الشعب الأفغاني دون منح شرعية للنظام، تنفيذ مشروعات استثمارية صغيرة في الزراعة والطاقة بقيادة الإمارات وقطر لتثبيت النفوذ الاقتصادي الخليجي، وتشجيع كابول على استضافة مفاوضات غير رسمية مع أطراف معارضة مقبولة في الدوحة تمهيدًا لحوار وطني يقوده الخليجيون. تسعى دول الخليج إلى تحقيق استقرار إقليمي وحفظ مصالحها الاقتصادية والأمنية، بينما تمنع أفغانستان من التحول إلى ساحة نفوذ لقوى منافسة مثل إيران وباكستان والصين، وتعزز قنوات اتصالها مع العواصم الغربية لتأدية دور مؤثر بعيدًا عن الاصطفافات القطبية.
إن نجاح الدول الخليجية في دفع أفغانستان نحو “انفراجة سياسية” وإدماجها التدريجي في المجتمع الدولي يتوقف على قدرتها على المناورة في بيئة إقليمية ودولية معقدة، فضلاً عن مرونتها الداخلية. وسط التنافس على النفوذ في كابول، تبرز تحركات الخليج كأداة لتحقيق الاستقرار دون الاعتراف الرسمي بنظام طالبان. ورغم التحديات، قد يسهم استثمار الخليج في النفوذ الاقتصادي والإنساني في توجيه الأحداث نحو حلول عملية تتماشى مع مصالح الأطراف المعنية وتنسجم مع التوجهات الدولية لتجنب الدخول في مواجهات مباشرة مع القوى الكبرى.