
الولايات المتحدة في البحر الأحمر: مأزق القوة بلا حسم
الاستماع للمقال صوتياً
|
اليمن – مقال الرأي
✍🏻: عبدالجبار سلمان*
في مشهد مفاجئ، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقفًا فوريًا للضربات الجوية ضد مليشيا الحوثي في اليمن، استنادًا إلى ما وصفه بـ” استسلامهم وطلبهم وقف القتال” واستعدادهم لوقف استهداف السفن. جاء هذا الإعلان في وقت بالغ الحساسية، قبيل زيارة مرتقبة للرئيس الأميركي إلى المملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى، وفي أعقاب تصعيد عسكري إسرائيلي في اليمن شمل منشآت حيوية عدة منها مطار صنعاء وميناء الحديدة.
هذه الخطوة الأميركية تعيد إلى الواجهة مأزقًا استراتيجيًا مزمنًا: مأزق التعامل مع مليشيا راديكالية مسلحة خارجة على الدولة، تمتلك أجندة إقليمية تتقاطع بوضوح مع مصالح قوى كبرى، وتستفيد من قرارات دولية/أميركية لا تكتمل فيها عناصر الحسم.
في ديسمبر 2018، توسطت الأمم المتحدة بضغط أميركي وبريطاني لإبرام اتفاق ستوكهولم، الذي أوقف عملية عسكرية كان من شأنها إخراج الحوثيين من مدينة الحديدة. ورغم الطابع الإنساني المعلن لذلك الاتفاق، فقد أدى في الواقع إلى تثبيت وضع المليشيا ومنحها مساحة لإعادة التموضع والاستقواء السياسي والعسكري. ولعل المفارقة أن هذا الاتفاق، الذي أتى تحت مظلة “منع كارثة”، ساهم في إطالة أمد الأزمة، وتحويل الحديدة إلى ساحة انتهاكات يومية بحق سكان تهامة، تحت غطاء دولي عاجز عن المحاسبة.
وبعد سنوات من تراكم القوة العسكرية والدعم الإيراني، برز الحوثيون في نهاية 2023 كلاعب بحري مباشر في البحر الأحمر، متوعدين كل سفينة ترتبط بإسرائيل أو “حلفائها”، بما يشمل السفن الأميركية. ومنذ ذلك الحين، تحوّلت مياه البحر الأحمر إلى ميدان مواجهة حقيقية بين مليشيا متمردة وأقوى جيش في العالم.
جاء الرد الأميركي سريعًا ومكلفًا. شنت واشنطن عشرات الغارات ضد منصات إطلاق وصواريخ وطائرات مسيّرة، وشاركت حاملات الطائرات والمدمرات في التصدي لهجمات مباشرة. لكن نتائج هذه العمليات لم تكن حاسمة، بل كشفت عن نقاط ضعف صادمة: إسقاط أكثر من 15 طائرة MQ-9 أميركية، سقوط مقاتلة F/A-18 في مناورة بحرية، واستمرار هجمات الحوثيين على الملاحة رغم كل هذه التكلفة.
النتيجة كانت واضحة: رغم التفوق التكنولوجي الأميركي، لم يُفلح الضغط العسكري في فرض معادلة ردع فعالة. بل على العكس، استخدم الحوثيون هذا التصعيد لصالح خطابهم الدعائي، مقدمين أنفسهم كقوة مقاومة لـ”الهيمنة الغربية” وأمريكا وإسرائيل..
إعلان ترامب في 6 مايو 2025 عن وقف الضربات الجوية “استجابة لاستسلام و/أو طلب الحوثيين” يثير أكثر من علامة استفهام. فلا توجد اتفاقية مكتوبة، ولا ضمانات تنفيذ، ولا حتى إشراف أممي أو وساطة معلنة بوضوح. كل ما في الأمر تصريح مبهم عن “رغبة الحوثيين في التهدئة”، قبيل زيارة رئاسية لمنطقة الخليج، وفي توقيت يشهد فيه البحر الأحمر احتقانًا غير مسبوق.
وقد سبقت هذه الخطوة تسريبات عن وساطة عمانية الأسبوع الماضي، لكن تجاهل الحلفاء (مثل إسرائيل) وعدم إبلاغهم بالقرار، كما صرح مسؤول إسرائيلي لأكسيوس، يعزز الانطباع بأن ما جرى هو قرار سياسي داخلي الطابع الهدف منه الخروج من المأزق الذي وجدت أمريكا نفسها فيه.
ومع غياب أي مؤشرات فعلية على التزام الحوثيين بوقف هجماتهم – لا في الداخل ولا في البحر – فإن الشكوك تزداد حول جدوى هذا “التفاهم الشفهي”، الذي قد يمنحهم فرصة جديدة لإعادة التموضع كما حدث بعد ستوكهولم.
كل ما سبق يعيدنا إلى معادلة استراتيجية جوهرية: لا يمكن استعادة الأمن والاستقرار في اليمن وتأمين البحر الأحمر دون استعادة الدولة اليمنية. فالميليشيا التي تسيطر على صنعاء والحديدة لا تمثل دولة مسؤولة، ولا تلتزم بقواعد القانون الدولي، ولا تخضع لضغط تقليدي يمكن أن يفرضه الطيران أو البوارج.
إن الحل يبدأ من إعادة تعريف التعامل الدولي مع مليشيا الحوثي، ووقف كل أشكال الغطاء السياسي والدبلوماسي الذي يجعل منها “شريكًا افتراضيًا” في المشهد اليمني. يجب دعم الحكومة اليمنية الشرعية بشكل حقيقي، وتمكينها عسكريًا واستخباراتيًا لاستعادة سيادتها، ليس فقط على الأرض، بل على الموانئ والمياه الإقليمية، وقطع سبل الإمداد والدعم الذي تتلقاه المليشيا من طهران.
ما بين ستوكهولم 2018 وصنعاء 2025، يتكرر الخطأ الاستراتيجي ذاته: الاكتفاء بإجراءات تكتيكية مؤقتة، بدل تبني رؤية حاسمة تعيد بناء مؤسسات الدولة اليمنية. إعلان وقف القصف قد يحقق مكاسب سياسية آنية، لكنه لا ينهي الأزمة، بل يعيد إنتاجها في شكل أكثر تعقيدًا.
البحر الأحمر لن يعود إلى الاستقرار إلا بوجود دولة يمنية قوية، تملك قرار الحرب والسلم، وتعيد اليمن إلى مربع السيادة الوطنية لا إلى ساحات النفوذ غير المنضبط. ومثل هذا الحل لا يتحقق عبر التفاهمات الغامضة، بل عبر دعم مشروع وطني واضح يعيد وحدة القرار وشرعية السلاح.
*عبدالجبار سلمان : صحفي وكاتب وناشط سياسي يمني متخصص في الشأن التهامي. بصفته مدافعًا عن حقوق الإنسان، يُركز على إقصاء وتهميش أبناء تهامة، مُسلِّطًا الضوء على التحديات السياسية والإنسانية في اليمن.
@DR_joems