
إقالة مستشار الأمن القومي الأميركي.. تفكيك في المشهد المُعقّد!
الاستماع للمقال صوتياً
|
د.مالك الحافظ
تشكل إقالة مايكل والتز من منصبه كمستشار للأمن القومي الأمريكي، في هذا التوقيت بالذات، علامة فارقة في مسار إدارة دونالد ترامب الثانية، بوصفها انعكاساً دقيقاً لاحتمال أي صراع عميق داخل مؤسسة الحكم الأمريكية بشكل أساسي.
صحيح أن القضية المعروفة إعلامياً بـ«سيغنال غيت» والتي تضمنت فضيحة تسريب وثائق حساسة عبر تطبيق مراسلات غير آمن أُعطيت زخماً إعلامياً كبيراً، إلا أن من يتتبع مسارات السياسة الأمريكية يدرك أن المسألة تتجاوز حدود “الفضيحة التقنية”. فإقالة والتز جاءت بعد اتهامات أكثر خطورة تتعلق بتجاوز خط التفاهمات الرئاسية عبر التنسيق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول سيناريوهات هجومية ضد إيران، في وقت كانت إدارة ترامب تدفع بثقلها نحو مسار تفاوضي لإعادة ضبط العلاقات مع طهران.
ينبغي النظر إلى هذه الإقالة ضمن ثلاثة مستويات تحليلية مترابطة: أولاً، الصراع الداخلي في مؤسسات صنع القرار؛ ثانياً، إعادة تشكيل السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط؛ وثالثاً، الدلالات الجيوسياسية الأوسع للقرار.
فعلى المستوى الأول، تعيد هذه الإقالة التذكير بالديناميات المتشابكة بين “الدولة العميقة” كما يصفها ترامب نفسه ومكتب الرئاسة. فمنذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لم يخفِ توجهه نحو إعادة هيكلة المؤسسات السيادية، بهدف تعزيز مركزية القرار التنفيذي وتقليص أدوار الوسطاء البيروقراطيين. وقد أثار نقل صلاحيات مكتب الأمن القومي مؤقتاً إلى وزير الخارجية ماركو روبيو كثيراً من علامات الاستفهام حول مستقبل هذا المكتب، خاصة أن روبيو بات يتولى أربع مهام سيادية حساسة، في سابقة نادرة تعكس تصعيداً واضحاً نحو المركزية.
من جهة ثانية، تظهر هذه الخطوة أن إدارة ترامب تعيد صياغة مقاربتها حيال إسرائيل وإيران في آن واحد. وبينما حافظت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على دعم مطلق لـ”إسرائيل”، تبدو إدارة ترامب رغم سجلها التقليدي في دعم تل أبيب أكثر ميلاً لموازنة أوراقها عبر اعتماد سياسة “إدارة الصراع” مع إيران بدل تأجيجه. لا يعني ذلك تراجع واشنطن عن التزامها بأمن إسرائيل، بل محاولة فرض رؤية استراتيجية جديدة تسعى إلى تفكيك الأزمات الشرق أوسطية بدلاً من تعقيدها، خاصة في ظل إدراك ترامب أن الدخول في حرب إقليمية مفتوحة قد يهدد المصالح الأمريكية الأعمق في زمن تتصاعد فيه التحديات الداخلية والخارجية، من آسيا إلى أوروبا.
من اللافت في هذه القضية أن الخطأ الذي ارتكبه والتز؛ وفقاً لما تسرب للصحافة لا يتعلق فقط بخطأ أمني تقني، بل يكشف عن نزعة داخل بعض مراكز القرار الأمريكي لدفع البلاد نحو خيارات عسكرية تتناقض مع أولويات القيادة السياسية الحالية. وهذه ليست ظاهرة جديدة؛ فالولايات المتحدة، بوصفها قوة عظمى معقدة البنية، لطالما شهدت صراعات بين ما يمكن تسميته بـ”عقل الدولة” و”عقل المؤسسة البيروقراطية”، كما أشار المفكر الأمريكي تشالمرز جونسون في كتاباته حول الإمبراطورية الأمريكية الحديثة.
إن قيام والتز بالتنسيق مع القيادة الإسرائيلية في حال تأكدت الوقائع المتداولة، يفتح باب النقاش حول مدى استقلالية المستشارين الأمنيين في الولايات المتحدة، ومدى قدرة البيت الأبيض على ضبط تماسك القرار السياسي–الأمني في ظل التحديات المتعاظمة. فالتحليل الموضوعي يفرض عدم الاكتفاء بتفسير هذا الحدث كحالة فردية، بل بوصفه مؤشراً على إشكالية أعمق تتعلق بتوازن السلطات داخل الدولة.
لا يمكن عزل هذا الحدث عن السياق الإقليمي الأوسع. فزيارة ترامب المقبلة إلى الخليج، والتي تشمل السعودية وقطر والإمارات، تشي برسائل متعددة المستويات. أولها أن واشنطن مصمّمة على تعزيز شراكاتها الاقتصادية والأمنية مع دول الخليج في إطار لعبة المصالح المتبادلة، وثانيها أنها تعيد توزيع أولوياتها بعيداً عن الانخراط العسكري المباشر، مع الإبقاء على حضورها عبر أدوات القوة الناعمة والشراكات الاستراتيجية.
غياب إسرائيل عن هذه الجولة يحمل في طياته إشارات واضحة حول إعادة رسم خطوط التماس في علاقات واشنطن الإقليمية. فلا شك أن العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية ستبقى محورية، ولكن من الواضح أن البيت الأبيض الحالي يضع حدوداً فاصلة بين ما تريده إسرائيل وما يخدم المصالح الأمريكية الأكثر اتساعاً.
في ضوء هذه التطورات، يمكن اعتبار إقالة مستشار الأمن القومي إنها تعبير عن مرحلة إعادة هندسة للمشهد السياسي الأمريكي داخلياً وخارجياً، في سياق تتحرك فيه واشنطن بين هاجسين؛ الحفاظ على زعامتها العالمية من جهة، وإعادة ترتيب أوراقها الداخلية والخارجية بما يضمن استدامة تلك الزعامة من جهة أخرى.
فهل ستنجح إدارة ترامب في تحقيق هذا التوازن الدقيق؟ ذلك ما ستكشفه الأيام المقبلة، خاصة وأن زيارة الخليج المنتظرة قد تمثل اختباراً حقيقياً لنوايا واشنطن وقدرتها على استعادة زمام المبادرة في منطقة لا تعرف الاستقرار إلا كاستثناء عابر.