آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

روسيا وشطب طالبان: صراع جيوسياسي بين الكرملين وواشنطن

الاستماع للمقال صوتياً

كاليفورنيا – مقال الرأي

الدكتور عبيد الله برهاني

في خطوة أثارت موجة من التساؤلات والتحليلات، أعلنت موسكو نيتها شطب حركة طالبان من قائمتها للمنظمات الإرهابية، وهي خطوة لا يمكن فصلها عن التحولات الجيوسياسية المتسارعة في آسيا الوسطى، ولا عن سياق التنافس الدولي المتجدد بين روسيا والولايات المتحدة على النفوذ في أفغانستان.
جاء هذا التحول الروسي في أعقاب الحوار المباشر الذي أجراه وفد أميركي رفيع مع سلطات كابول، وهو حوار مثّل منعطفًا في قواعد الاشتباك السياسي الأميركي، وحمل في طياته رسالة ضمنية مفادها أن واشنطن لم تعد تسعى لتغيير الواقع القائم، بل باتت تفضّل إدارة الوضع بما يحقق قدرًا من الاستقرار ويحفظ مصالحها الاستراتيجية.
هذا التغيّر في المقاربة الأميركية حفّز قوى إقليمية كبرى، وعلى رأسها روسيا، على إعادة تموضعها في الساحة الأفغانية، مستخدمة أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية وحتى الأمنية لتعزيز حضورها. ويأتي التوجّه نحو “تطبيع تدريجي” مع طالبان عبر رفع اسمها من لوائح الإرهاب كجزء من هذا التموضع الجديد، الذي يعكس طموح موسكو للعب دور فاعل في رسم مستقبل أفغانستان ومحيطها الإقليمي.
لهذا القرار أيضًا تداعيات محتملة على المشهد السياسي داخل أفغانستان. فمنذ إدراج روسيا لحركة طالبان على قائمتها السوداء عام 2003، لم يكن ذلك مدفوعًا بدوافع أمنية داخلية فقط، بل جاء ضمن سياق دولي أوسع اتسم آنذاك بتقارب غير مسبوق بين موسكو وواشنطن بعد الحرب الباردة. فقد كانت روسيا تسعى في تلك المرحلة إلى التنسيق مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، ضمن ما عُرف بـ”الحرب العالمية على الإرهاب”، فجاء قرارها حينها كمبادرة سياسية تهدف إلى كسب رضا واشنطن والانخراط في النظام الدولي الذي كانت تقوده.
لكن المشهد تغيّر جذريًا. فالعلاقات الروسية–الأميركية تمر اليوم بأدنى مستوياتها، وسط صراع مفتوح يمتد من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. وفي هذا السياق، لم تعد طالبان عبئًا دبلوماسيًا، بل تحوّلت إلى ورقة تفاوضية تستخدمها موسكو ضمن معادلات النفوذ وتبادل الرسائل مع واشنطن. وهذا يعكس كيف يمكن أن تتحول التصنيفات الأمنية إلى أدوات سياسية تُوظَّف ضمن حسابات استراتيجية تتجاوز منطق التقييم الأمني المباشر.
من المنظور الأمني، باتت موسكو ترى في تنظيم “ولاية خراسان” – الفرع المحلي لتنظيم الدولة الإسلامية – التهديد الأكبر لأمنها القومي، خصوصًا بعد الهجوم الدامي الذي تبناه التنظيم واستهدف قاعة كروكوس في موسكو في مارس الماضي. في ضوء ذلك، أعادت روسيا ترتيب أولوياتها الأمنية في الإقليم، وبدأت تنظر إلى طالبان، رغم تحفظاتها التاريخية، بوصفها شريكًا واقعيًا في مواجهة عدو أكثر تطرفًا وخطورة.
يعكس القرار الروسي أيضًا بعدًا جيوسياسيًا واضحًا، يتمثل في سعي موسكو لمنافسة النفوذ الأميركي في أفغانستان وآسيا الوسطى. فمنذ انسحاب القوات الأميركية من كابل، تعمل روسيا – إلى جانب الصين وإيران – على ملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفته واشنطن. ورفع اسم طالبان من القوائم السوداء يمنح موسكو قدرة أكبر على التواصل المباشر مع الحركة، ويمنحها ميزة تفاوضية واقتصادية تُوظَّف لتعزيز نفوذها في المنطقة، لا سيما في ظل الضغوط الغربية المتزايدة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا.
اقتصاديًا، تدرك موسكو أن أفغانستان، تحت حكم طالبان، تمتلك موارد استراتيجية مهمة مثل الليثيوم والنحاس، فضلًا عن موقع جغرافي حيوي يربط جنوب آسيا بآسيا الوسطى. ولهذا تولي اهتمامًا خاصًا بمشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل ممر النقل الشمالي–الجنوبي، وخطوط السكك الحديدية التي تربط روسيا بأوزبكستان وأفغانستان. إن إزالة الصفة الإرهابية عن طالبان يسهّل انخراط الشركات الروسية في هذه المشاريع، ويعزّز المصالح الاقتصادية الروسية في الإقليم.
أما داخليًا، فإن الانخراط المباشر مع السلطة القائمة في كابول – حتى في ظل غياب الاعتراف الرسمي – من قِبَل قوى دولية كبرى كروسيا، يُعدّ بمثابة خطوة نحو إضفاء شرعنه واقعية على حركة طالبان، وهو ما يعزز من موقعها السياسي الداخلي. ومع ذلك، فإن هذا الشكل من الانخراط لا يضمن بالضرورة استقرارًا سياسيًا شاملاً، ولا يوفّر بيئة مناسبة لجمع مختلف المكوّنات العرقية والسياسية في البلاد.
إقليميًا، تتبنى كل من الصين وإيران نهجًا براغماتيًا متزايدًا في تعاملها مع طالبان. فالصين، رغم حدودها القصيرة مع أفغانستان، تنظر إلى الحركة من زاويتين: أمنية، تتعلق بخطر انتقال التطرف إلى إقليم شينجيانغ، واقتصادية، في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، لا سيما في ظل استثماراتها المتزايدة في المعادن وعلى رأسها الليثيوم. وبرغم تحفظها على الاعتراف الرسمي بالحركة، فقد استضافت بكين وفودًا من طالبان، وفتحت قنوات تواصل مباشرة، حرصًا منها على ضمان مصالحها وتحقيق الاستقرار الإقليمي.
أما إيران، ورغم إرثها المذهبي والتاريخي المعقّد مع طالبان، فهي تسعى إلى موازنة علاقاتها معها، من خلال ضبط الحدود وتأمين مصالحها الاقتصادية، مع الحفاظ على حضور سياسي في الساحة الأفغانية، خاصة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية. وتسعى طهران، عبر علاقات مرنة مع كل من طالبان والمعارضة، إلى امتلاك أوراق تأثير مزدوجة تُوظَّف لتعزيز مكانتها في التوازنات الإقليمية.

قرار روسيا تعليق طالبان من قائمة الإرهاب يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في سياق التنافس الجيوسياسي المتصاعد في أفغانستان وآسيا الوسطى. ومع تبدّل المقاربات الأميركية، تسعى موسكو إلى إعادة تموضعها، وتوظيف أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية لتعزيز حضورها ونفوذها، مع رؤية واقعية تتعامل مع طالبان كفاعل سياسي وأمني ضروري. وفي ظل سعي الصين والدول الخليجية وإيران وقوى أخرى مثل باكستان وتركيا لإعادة رسم أدوارها وضمان مصالحها، تظل أفغانستان ساحةً مفتوحة لصراع المصالح والتوازنات والورقة التفاوضية في معادلات النفوذ. ويبقى السؤال المطروح.
هل سيسهم هذا التكيّف البراغماتي في تحقيق استقرار نسبي، أم سيعمّق تعقيدات التنافس الإقليمي والدولي في المنطقة.

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى