
التنافس الأميركي الصيني أو إعادة تشكيل العالم
الاستماع للمقال صوتياً
|
سوريا – مقال الرأي
د. مالك الحافظ
في قلب العاصفة التجارية المتجددة بين الولايات المتحدة والصين، لا تكمن المسألة في تعريفات جمركية أو تبادل عقوبات اقتصادية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى صراع عميق على طبيعة النظام العالمي، وعلى من يملك حق قيادة النموذج الاقتصادي الدولي، في لحظة انتقالية حرجة يعاد فيها تشكيل موازين القوى، لا فقط بالمال والسلاح، بل بالمعايير، والقواعد، وشرعية السياسات الاقتصادية.
فمنذ أن دشّن الرئيس الأميركي دونالد ترامب موجته الأولى من الرسوم الجمركية في 2018، دخل الاقتصاد العالمي مرحلة مضطربة من الشكوك الهيكلية حول مصير العولمة، وطبيعة التكامل الدولي، وأدوار القوى الكبرى في صياغة المبادلات العالمية. واليوم، ومع العودة التدريجية لنفس الخطاب المتشدد، ومع تصاعد الاستجابة الصينية القائمة على ردود غير تقليدية، بات من الواضح أن الأمر لم يعد يتعلق باختلال الميزان التجاري، بل باختبار مفتوح على مستقبل النظام الدولي.
تشكل الصين حالة معقدة في النظام الاقتصادي الدولي. فهي في آن معاً قوة تصدير كبرى، وسوق استهلاكية هائلة، وفاعل مالي يتوسع بهدوء، لكن في الوقت نفسه، تظل بنية نظامها السياسي غير منسجمة مع قواعد الانفتاح التي قام عليها الاقتصاد العالمي. فعلى خلاف ما توقعه العديد من منظّري الاقتصاد الليبرالي، فإن نمو الاقتصاد الصيني لم يُفضِ إلى انفتاح سياسي، بل عزّز سيطرة الحزب الشيوعي، ورسّخ نموذجاً سلطوياً يحكم السوق من الأعلى، ويراقب الشركات، ويخضع القطاع الخاص لاعتبارات الولاء السياسي.
هذه الازدواجية البنيوية، بين التوسع الاقتصادي والانغلاق السياسي، هي ما يجعل من الصين شريكاً غير مستقر في المنظومة الليبرالية الدولية. وحين تتحرك بكين للرد على الرسوم الأميركية من خلال السيطرة على صادرات المعادن النادرة، أو فرض قيود على شركات مثل “تيك توك” أو “سكايديو”، فإنها لا تستخدم أدوات السوق، بل أدوات الدولة. وهذا بالضبط جوهر الإشكال؛ دخول منطق الدولة إلى قلب التبادل التجاري.
من جهة أخرى، ورغم الحدة الظاهرية في الخطاب السياسي الأميركي، فإن آليات التعامل الأميركية مع الملف الصيني، تبقى قائمة على قواعد قابلة للتفاوض، وقابلة للطعن، ضمن بيئة سياسية داخلية مفتوحة تخضع للرقابة والمحاسبة الإعلامية والبرلمانية. فحتى عندما يفرض ترامب رسوماً جمركية، فإنها تمر عبر مؤسسات، وتخضع لنقاش داخلي، وتُقابل بمعارضة من البورصات، والجمعيات الاقتصادية، وحتى من شريحة من الناخبين.
هذا التفاوت الجوهري في طبيعة القرار الاقتصادي بين واشنطن وبكين، يجعل من الولايات المتحدة، رغم صرامة سياساتها، طرفاً يمكن التفاهم معه، بينما تظل الصين أقل مرونة، وأكثر ربطاً بين الاقتصاد والسيادة السياسية، بشكل يجعل الحوار معها محفوفاً
المقلق في هذه الحرب الاقتصادية لا يكمن في الأرقام، بل في الرمزية. فحين تُهدد الصين بقطع الإمدادات الحيوية لصناعات الدفاع الأميركية، أو عندما تلجأ إلى سياسة “المعاملة بالمثل” عبر أدوات لا تنتمي لأدوات السوق التقليدية، فإننا نكون أمام تحدٍّ مباشر للمنظومة الليبرالية التي بُني عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
إن النظام التجاري الدولي لم يُصمم للتعامل مع دول تنتمي شكلياً إلى منطق السوق، لكنها تدير هذا السوق بعقلية الدولة السلطوية. وهنا، تُطرح مسألة العدالة في التبادل: هل من العدل أن تتمتع الصين بكل مزايا الانفتاح الغربي، بينما تُغلق أسواقها، وتُقنن الحريات، وتُرهب الشركات الأجنبية بأدوات تشريعية تعسفية؟
من ناحية أعمق، تطرح التجربة الصينية سؤالاً جوهرياً حول مستقبل الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، هل يمكن لمنظومة السوق أن تنمو وتزدهر في ظل غياب الحرية السياسية، وهل يجوز لنظام اقتصادي عالمي أن يُدار بشريك لا يلتزم بمبادئ الشفافية، وحرية المنافسة، واستقلال القضاء؟
ما يجري اليوم ليس مجرد حرب اقتصادية، بل مواجهة بين رأسمالية تحكمها المؤسسات، ورأسمالية تخضع للحزب. وقد تكون الصين حققت نمواً لافتاً خلال العقود الماضية، لكنها فعلت ذلك في ظل شروط دولية سمحت لها بالدخول إلى منظمة التجارة العالمية دون التزامات حقيقية بالإصلاح السياسي أو القانوني. واليوم، وهي ترفض أي تعديل لهذه الشروط، تحاول استخدام مكاسب النظام الدولي من أجل تقويضه من الداخل.
من الخطأ تصوير الحرب التجارية وكأنها نزاع على الرسوم فقط. إنها مواجهة على قواعد اللعب. وإذا أراد العالم أن يتجنب العودة إلى منطق الكتل والانقسامات، فإن إعادة التفكير في شروط انضمام القوى الصاعدة إلى النظام الدولي أصبحت ضرورة.
ليس المطلوب عزل الصين، ولا استعداءها، بل وضع قواعد أكثر توازناً، تربط بين الحقوق والواجبات. فلا يمكن لقوة اقتصادية بحجم الصين أن تواصل التمتع بكافة مزايا الانفتاح، بينما تُبقي على نظام سياسي يرفض الشفافية والمساءلة.
الرهان اليوم لا ينبغي أن يكون على من يربح الحرب، بل على من يملك القدرة على إعادة تعريف معاني القوة، ومفاهيم الشراكة. فالعالم لا يحتاج إلى قطب جديد يُعيد إنتاج الهيمنة بصيغة سلطوية، بل إلى توازن حقيقي يُعيد للمؤسسات الدولية شرعيتها، ويمنح الاقتصاد العالمي فرصة للتنفس من جديد.
وإذا أرادت الصين أن تكون جزءاً من هذا التوازن، فعليها أن تختار، إما أن تنفتح بشروط واضحة، أو أن تتحمل تبعات التناقض بين خطاب القوة ومقتضيات الشراكة. أما العالم، فلا يمكنه أن ينتظر طويلاً.