آخر التحديثاتأبرز العناوينمجلس الأمن القومي الأمبركيمقال الرأي

ترامب… نحو إعادة تشكيل أولويات النفوذ الأميركي عالميّاً

الاستماع للمقال صوتياً

واشنطن – مقال الرأي

 د. مالك الحافظ

 

في تصريحاته الأخيرة التي استأثرت باهتمام الأوساط الاقتصادية والسياسية على حد سواء، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الرسوم الجمركية الجديدة التي تعتزم إدارته فرضها ستشمل جميع الدول، وأن صفقة بيع “تيك توك” سيتم إنجازها في موعدها المحدد، مشيراً أيضاً إلى ضغوط تمارس على أوكرانيا في سياق اتفاق المعادن النادرة. هذه التصريحات لا يمكن فصلها عن التحولات العميقة في مقاربة ترامب للسياسة الخارجية والاقتصادية، والتي تقوم على إعادة تعريف مفهوم الشراكة، من منطلق براجماتي يستند إلى مصالح أميركية مباشرة، ويعكس ما يمكن تسميته بـ”العقيدة الاقتصادية الجديدة”.

ما يميز هذه العقيدة أنها تنقل ثقل النفوذ الأميركي من الخطابات القيمية إلى أدوات الضغط الاقتصادي المباشر، حيث لم يعد الولاء السياسي معياراً كافياً للتحالفات، بل أصبحت المشاركة في ضمان التفوق الاقتصادي الأميركي، لا سيما في المجالات التكنولوجية والاستراتيجية الحساسة، هي المعيار الحقيقي. بهذا المعنى، فإن صفقة “تيك توك” لا تُقرأ فقط بوصفها قضية تتعلق بالأمن القومي، بل بوصفها خطوة استراتيجية لضمان السيادة الرقمية الأميركية، ومنع تغلغل المنصات الأجنبية في بنية الاتصال المجتمعي الأميركي.

وفي السياق ذاته، يأتي تصريح ترامب المتعلق بالمعادن النادرة في أوكرانيا بوصفه رسالة مزدوجة، من جهة أولى، هو تحذير واضح لزيلينسكي بعدم التراجع عن الاتفاق، ومن جهة ثانية، هو إعلان صريح بأن الولايات المتحدة لن تتهاون في حماية مصالحها الحيوية. هذه الرسالة تتجاوز أوكرانيا لتخاطب شركاء محتملين حول العالم، مفادها أن التزاماتهم مع واشنطن يجب أن تكون ثابتة، وأن أي تردد سيقابل برد فعل حاسم. إنها رسالة تؤسس لمرحلة جديدة من التوازنات، يكون فيها النفوذ الأميركي مستنداً إلى آليات القوة الاقتصادية الذكية، لا فقط إلى الانتشار العسكري أو التفوق التقني.

أما على صعيد الرسوم الجمركية، فإن تصريحات ترامب بخصوص تعميمها على جميع الدول تُعيد إحياء رؤيته القائمة على مبدأ “الولايات المتحدة أولاً”، لكنها تعكس أيضاً فهماً واقعياً لتشابك الاقتصاد العالمي، حيث تسعى الإدارة إلى تقليص الفجوة التجارية التي تعتبرها غير متكافئة مع دول مثل الصين والهند وحتى بعض حلفاء واشنطن في الاتحاد الأوروبي. هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه السياسة، وإن بدت تصادمية، فإنها تسعى إلى إعادة صياغة معايير التبادل التجاري الدولي بشكل يعزز تنافسية السوق الأميركية.

وفي هذا السياق، يمكن فهم موقف ترامب من “تيك توك” على أنه تجسيد لعقيدة الأمن السيبراني التجاري، التي ترى أن التفوق التكنولوجي لم يعد مجرد رفاهية، بل ضرورة استراتيجية في ظل صعود الصين كمنافس جيو-اقتصادي. وبالتالي، فإن فرض بيع التطبيق لشركة أميركية لا يُعد تقييداً للسوق، بل حماية لمجال الأمن القومي، بوصفه لا يشمل فقط الدفاع التقليدي، بل يمتد إلى البيانات والبنى التحتية السيبرانية.

من ناحية أخرى، فإن نهج ترامب في إدارة هذه الملفات يعكس مفهوماً يمكن تسميته بـ”الصراحة الاستراتيجية”. هذه الصراحة ليست انفعالية أو غير محسوبة، بل هي جزء من تكتيك سياسي يرى أن الشفافية المباشرة في الخطاب تمنح واشنطن تفوقاً في فرض أجندتها، عبر تحييد المسارات الدبلوماسية الكلاسيكية التي كثيراً ما تعيق التفاوض الفعّال. وهذا ما يبرر تحذيره الصريح لزيلينسكي، وتأكيده العلني على عدم قبول التردد في العقود المبرمة مع الولايات المتحدة.

وتكمن قوة هذه الاستراتيجية في قدرتها على خلق حالة من ردع ناعم، أي الضغط دون اللجوء إلى وسائل تقليدية. فبدلاً من العقوبات أو الحروب التجارية الطويلة، يُستخدم التصريح المباشر كسلاح للتأثير وإعادة ضبط التوازنات. هذا ما نراه في ملف المعادن النادرة، الذي يرتبط عضوياً بصراعات السيطرة على سلاسل الإمداد العالمية، لا سيما في الصناعات التكنولوجية والدفاعية.

ومن المهم أيضاً النظر إلى هذه السياسة في ضوء التحولات العالمية، إذ تشهد الساحة الدولية عودة تدريجية للسياسات الحمائية، وتراجعاً نسبياً في منطق العولمة المفتوحة. ترامب لا يسبح عكس التيار، بل يستبق الموجة، عبر بناء نظام جديد من التحالفات قائم على تبادل المصالح الاقتصادية المباشرة. وهنا تتجلى فاعلية نهجه في صياغة مستقبل الدور الأميركي ضمن نظام عالمي أكثر تعقيداً.

 إن تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة ليست مجرد ردود فعل، بل تعبّر عن استراتيجية واضحة المعالم، تهدف إلى إعادة تعريف الشراكة والتحالف والهيمنة من منطلق أميركي داخلي. في عالم تتزايد فيه التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، يبدو أن سياسة ترامب ترتكز على أساس صلب من البراغماتية الفعالة، التي قد تبدو صادمة للبعض، لكنها منسجمة مع منطق القوة في السياسة الدولية.

د. مالك الحافظ

كاتب صحفي وباحث أكاديمي سوري، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، ودرجة الماجستير في الإعلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى