آخر التحديثاتأبرز العناوينبوّابة سوريا

100 يوم مع سوريا الجديدة: تحديات التغيير وإرث الماضي

الاستماع للمقال صوتياً

سوريا – مقال الراي

بقلم بشار الحاج علي

بعد مرور أكثر من مائة يوم على سقوط الدكتاتور، تدخل سوريا مرحلة سياسية وإدارية جديدة، مثقلة بالتحديات ومفعمة بالآمال. شهدت البلاد تحولات كبرى، كان أبرزها تفكيك أجهزة القمع التي هيمنت على الحياة السياسية لعقود، ومع ذلك لا يزال المشهد العام غير واضح بالكامل، حيث تواجه الإدارة الجديدة اختبارات صعبة تتعلق بإدارة الدولة، وإرساء الاستقرار، واستعادة الثقة الشعبية.

ورغم أن الحكومة الجديدة تحظى بدعم شعبي واسع، إلا أن هذا الدعم ليس غير مشروط، بل يرتبط بقدرتها على تحقيق نتائج ملموسة في الإصلاحات السياسية، وإعادة تفعيل المؤسسات المعطلة. فهل يشكل هذا التغيير قطيعة حقيقية مع الماضي، أم أن الإصلاح التدريجي الذي تتبناه الحكومة قد يتحول إلى تباطؤ يعيد إنتاج الأزمات؟ وما دور المجتمع المدني والإعلام في تشكيل ملامح المرحلة الجديدة؟

بين التدرج والجمود: هل يكفي الإصلاح التدريجي؟

منذ اللحظة الأولى بعد سقوط النظام، تبنت القيادة الجديدة نهجًا إصلاحيًا تدريجيًا، تجنبًا للفوضى وضمانًا لانتقال سلس للسلطة. هذا التوجه أدى إلى تفكيك الأجهزة القمعية القديمة، لكنه في المقابل لم يُحدث قفزة نوعية في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، التي لا تزال تعمل بشكل محدود. وحتى الآن، يتم اتخاذ القرارات بحذر في محاولة لتحقيق توازن بين تطلعات الشعب والضغوط السياسية والاقتصادية. ورغم أهمية هذا النهج في الحفاظ على الاستقرار، إلا أنه يثير تساؤلات حول مدى جديته، خاصة إذا لم يترافق مع خطوات ملموسة تعزز ثقة المواطنين.

على المدى القصير، قد يحد هذا النهج من الصدمات السياسية، لكنه على المدى الطويل قد يتحول إلى عائق يعطل عملية التغيير. المطلوب ليس فقط التدرج في الإصلاح، بل تحقيق توازن بين الحذر وتنفيذ تغييرات جوهرية تعيد بناء مؤسسات الدولة على أسس أكثر كفاءة وشفافية.

الشرعية الشعبية: دعم مشروط أم تفويض حقيقي؟

خلافًا للنظام السابق، الذي اعتمد على القمع لترسيخ سلطته، تحظى الإدارة الجديدة بدعم شعبي قوي. لكن هذا الدعم ليس تفويضًا مطلقًا، بل هو مشروط بقدرتها على تحقيق تغييرات ملموسة تعكس تطلعات الشارع. حتى الآن، لا يزال السوريون في حالة ترقب، منتظرين نتائج حقيقية تعكس وعود التغيير. فإذا تمكنت القيادة من تنفيذ إصلاحات فعلية وتعزيز المشاركة السياسية، فقد يتحول الدعم العاطفي إلى تفويض حقيقي، أما إذا استمر الوضع دون تغييرات جوهرية، فقد يؤدي ذلك إلى تآكل الثقة الشعبية، مما يفتح المجال أمام اضطرابات جديدة.

المجتمع المدني: شريك في التغيير أم مجرد مراقب

بعد عقود من القمع، بدأت منظمات المجتمع المدني في سوريا تستعيد دورها، محاولةً التأثير على العملية السياسية والمشاركة في إعادة بناء الدولة. فقد برزت هذه المنظمات كأحد الفاعلين الأساسيين في تقديم المساعدات، ورصد أداء الحكومة، والدفع باتجاه تعزيز الحريات العامة، لكن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني لا تزال غير واضحة. فإذا أُتيحت لهذه المنظمات الفرصة للعمل بحرية، فقد تشكل قوة داعمة للإصلاحات، على غرار تجارب دول مثل تونس بعد 2011 أو أوروبا الشرقية بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، أما إذا بقي دورها هامشيًا أو خاضعًا للقيود، فقد تخسر البلاد فرصة تأسيس نموذج حكم أكثر انفتاحًا وديمقراطية.

الإعلام: من أداة قمع إلى مساحة للنقاش؟

لطالما كان الإعلام في سوريا أداة بيد السلطة، حيث استخدمه النظام السابق في الترويج لرواياته الرسمية وقمع أي صوت معارض، ومع سقوطه، برزت وسائل إعلام جديدة تحاول تقديم صورة أكثر موضوعية عن المرحلة الانتقالية، لكن في ظل غياب إعلام رسمي ناطق باسم الإدارة الجديدة، أصبح الإعلام الموازي، بما في ذلك الصحافة المستقلة ومواقع التواصل الاجتماعي، هو الفاعل الرئيسي في تشكيل الرأي العام.

ورغم هذا التحول، لا يزال الإعلام يواجه تحديات كبيرة، أبرزها التوازن بين الحرية والمسؤولية، حيث تحاول بعض المنصات الإعلامية تقديم تغطية مهنية، بينما تنجرف أخرى نحو الاستقطاب أو الترويج لمعلومات غير دقيقة، كما أصبح الإعلام المستقل والمؤثرون والناشطون يلعبون دورًا رئيسيًا في تشكيل المزاج الشعبي، ما يجعله أداة حاسمة في دعم أو تقويض الإدارة الجديدة. فإذا نجح الإعلام في ترسيخ بيئة نقاش عقلاني، فقد يسهم في دفع عجلة الإصلاح وتعزيز الشفافية، أما إذا استمر في استنساخ أنماط الدعاية السابقة، فقد يفقد مصداقيته كأداة تغيير حقيقية.

السيناريوهات المحتملة: أي مستقبل ينتظر سوريا الجديدة؟

بعد المائة يوم من سقوط النظام، لا تزال سوريا في مرحلة انتقالية غير مستقرة، حيث تواجه الإدارة الجديدة تحديات تتعلق بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق الاستقرار، واستعادة ثقة الشارع.

وبالنظر إلى المعطيات الحالية، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية.

فإذا تمكنت القيادة من تنفيذ إصلاحات فعلية، وتعزيز الشفافية، وإشراك المجتمع المدني، فقد تسير البلاد نحو بناء دولة أكثر استقرارًا وديمقراطية.

أما إذا استمرت القرارات بطيئة دون تغييرات جوهرية، فقد تبقى البلاد في حالة عدم يقين، مما قد يؤدي إلى إحباط شعبي واسع وركود في العملية السياسية،

وفي حال لم تحقق الإدارة الجديدة تقدمًا ملموسًا، فقد يؤدي ذلك إلى تآكل الدعم الشعبي، وفتح المجال أمام موجة جديدة من الأزمات السياسية والاحتجاجات.

هل سوريا على أعتاب تغيير حقيقي؟

لا تزال سوريا الجديدة في طور التشكل، حيث يوفر الدعم الشعبي الحالي فرصة للإدارة الجديدة، لكنه ليس ضمانة دائمة. النجاح الحقيقي يعتمد على مدى قدرة القيادة على تنفيذ إصلاحات جوهرية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وإعطاء مساحة حقيقية للمجتمع المدني والإعلام ليكونا شريكين في إعادة صياغة مستقبل البلاد.

يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن الإدارة الجديدة من تقديم نموذج حكم مختلف عن الماضي، أم أن سوريا ستظل عالقة بين إرث الدكتاتورية وتحديات التغيير؟ الأشهر القادمة ستحمل الإجابة.

بشار الحاج علي

دبلوماسي وباحث سوري

‫2 تعليقات

  1. قراءة مهمة وتساؤلات محقة وفي توقيتها تماماً.
    أهلاً بك على منصة (البيت الأبيض بالعربية).
    كل الود والتقدير أستاذ بشار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى