آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

استعادة الردع في البحر الأحمر.. قراءة في المنطق الاستراتيجي للتحرك الأمريكي

الاستماع للمقال صوتياً

واشنطن – مقال الرأي
 

د. مالك الحافظ

يشكّل قرار وزارة الدفاع الأمريكية بنقل حاملة الطائرات “كارل فينسون” إلى البحر الأحمر، بالتوازي مع تمديد مهمة “هاري ترومان”، مؤشراً واضحاً على تحوّل نوعي في أدوات الاستجابة الأمريكية للتهديدات غير المتماثلة التي باتت تُعرّض أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم للخطر. هذا التحوّل لا يمكن فهمه إلا في سياق إعادة تعريف مقاربة الردع، وتعزيز الحضور البحري كأداة سياسية واستراتيجية في مواجهة فاعلين غير تقليديين مثل جماعة الحوثي اليمنية، المدعومة من إيران.

بعيداً عن الانفعالات الإعلامية، يتأسس هذا التحرك الأمريكي على منطق مركّب يعكس تلاقياً بين عدد من المتغيرات الحيوية؛ أولها، الانهيار النسبي في فعالية أدوات الردع التقليدية في مواجهة قوى لا تتقيد بقواعد الاشتباك الكلاسيكية، وثانيها، تنامي الحاجة إلى تأمين تدفقات التجارة العالمية وسط تصاعد التهديدات البحرية عند مضيق باب المندب، وثالثها، ما يمكن تسميته بـ”إعادة تموضع الانتباه الاستراتيجي” نحو الشرق الأوسط، في ظل التحديات المتعددة التي تواجه النظام الدولي.

إنّ تحريك مجموعتين قتاليتين إلى مسرح عمليات واحد ليس فقط رسالة عسكرية، بل فعل سياسي يندرج ضمن مقاربة الردع الاستباقي، التي باتت إدارة ترمب، في نسختها الجديدة، تميل إليها بوضوح. فغياب الرد الحازم، كما أظهرت تجارب سابقة، غالباً ما يُغري الفاعلين غير الدولتيين بتوسيع نطاق تهديدهم، خصوصاً حين يُترجم التردد الأميركي على أنه انكفاء أو إعادة تموضع.

من هذا المنطلق، يمكن اعتبار الخطوة الأمريكية بمثابة محاولة استعادة للمبادرة في بيئة إقليمية باتت تُظهر مؤشرات خطيرة على تآكل الردع الأمريكي، سواء في العراق أو سوريا أو البحر الأحمر. وهي بيئة تتّسم بتعدد الفاعلين، وتداخل الأجندات، واستخدام أدوات هجينة تجمع بين الحرب النظامية وحرب الوكالة والأدوات السيبرانية.

علاوة على ذلك، فإن التحرك الأمريكي الأخير يُعزّز الثقة لدى شركائها الإقليميين والدوليين، ويعيد ترسيخ صورة واشنطن كضامن أساسي للأمن البحري العالمي، خاصة في ظل تهديدات مباشرة لمسارات الملاحة الاستراتيجية التي تُعد شرياناً رئيسياً للاقتصاد العالمي. فاضطرار أكثر من 75% من حركة الشحن لتغيير مسارها جنوباً حول رأس الرجاء الصالح، كما تشير تقارير وزارة الدفاع، ليس تفصيلاً لوجستياً، بل مؤشراً إلى انكشاف النظام التجاري أمام أدوات الفوضى المسلحة.

جدير بالذكر أن التحرك العسكري الأميركي لا يجب قراءته بمعزل عن المسار السياسي الموازي، إذ إن تعزيز الحضور البحري يهدف بالدرجة الأولى إلى فرض شروط تفاوضية جديدة على الأطراف الفاعلة، وخلق بيئة ردع تمنع تحول الهجمات الحوثية إلى أداة تفاوضية تُستخدم لابتزاز الإقليم والمجتمع الدولي في آن.

وعليه، فإن دعم هذا التوجّه لا يُعدّ تبريراً للعنف، بل انحيازاً إلى ضرورة فرض توازن جديد يردع منطق الفوضى ويعيد ضبط قواعد الاشتباك. فالدولة التي تفقد قدرتها على حماية الممرات الدولية، تفقد تلقائياً صدقيتها كفاعل مركزي في النظام العالمي.

 لا يمكن فصل التحرك الأمريكي عن سعي أوسع لإعادة تشكيل قواعد الأمن البحري الدولي، في لحظة تتسم بتداخل الجغرافيا السياسية مع شبكات الصراع الاقتصادي والعسكري. وإذا كان الأمن البحري قد شكّل على الدوام أحد أعمدة الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، فإن البحر الأحمر اليوم يعود ليكون مختبراً حقيقياً لقدرة واشنطن على ممارسة القيادة من موقع القوة، لا من موقع ردّ الفعل.

وإذا كان البحر الأحمر يشكّل اليوم نقطة اختبار حرجة لجدوى الردع البحري الأميركي، فإن تداعيات هذا الحراك لن تبقى محصورة ضمن الجغرافيا اليمنية أو نطاق باب المندب. بل من المرجّح أن تمتد تأثيراته إلى الخليج العربي وشرق المتوسط، حيث تتقاطع مصالح كبرى، وتُعيد القوى الإقليمية والدولية رسم خرائط نفوذها البحرية. فنجاح واشنطن في فرض قواعد جديدة للاشتباك في البحر الأحمر قد يُعيد تثبيت ميزان الردع في الخليج، ويمنح حلفاءها العرب مساحة أوسع للمناورة الاستراتيجية في مواجهة النفوذ الإيراني. كما أنه قد يشكّل عامل توازن إضافي في شرق المتوسط، حيث يتزايد التنافس على الطاقة والممرات البحرية.

بهذا المعنى، فإن تحرّك حاملات الطائرات الأميركية لا ينبغي قراءته كإجراء ظرفي أو تكتيكي، بل كمؤشر على عودة واشنطن لاستخدام أدوات التفوّق البحري لفرض الاستقرار في مناطق تشهد هشاشة جيوسياسية متزايدة. وهو ما يضع مسؤوليات مضاعفة على عاتق الشركاء الإقليميين للمساهمة في صياغة منظومة أمن جماعي قائمة على الردع المتماسك، لا على التسويات المؤقتة التي تفتح المجال أمام دورات

د. مالك الحافظ

كاتب صحفي وباحث أكاديمي سوري، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، ودرجة الماجستير في الإعلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى