آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

دِلِّة الفرقة الرابعة وفنجان الشرع

الاستماع للمقال صوتياً

واشنطن – مقال الراي

بقلم رغيد عقلة

كان مخططاً لهذه المقالة اتجاهاً مختلفاً، يحمل الكثير من النقد، ليس فقط لسلطة الأمر الواقع القائمة في دمشق اليوم، ولكن لجمهورها أيضاً، ففي أداء الطرفين بمايفترض أنه إطلاق لعملية تغيير سياسي شامل الكثير مما يستحق التوقف عنده، ليأتِ التحرك الغادر لمن وصف نفسه ب (العميد الركن المجاز) “غياث دلة”، الضابط السابق في الفرقة الرابعة سيئة الصيت، ليعكس الاتجاه تماماً، ليس لهذه المقالة فقط، ولكن لمزاج شعبي كان آخذاً في الصعود، اختار الطريق الصعب، وركوب مخاطرة (انتقاد مالا يمكن انتقاده) في أداء إدارة الرئيس الشرع، مجازفاً بإغضاب جمهور سوري واسع آثر عن سبق إصرار وتصميم عدم توجيه أي نقد كان لأداء القائمين على الشأن السياسي السوري اليوم، بل واستحرم على غيره (خطيئة) حتى التفكير بالأمر، تقف وراء ذلك جملة أسباب مختلفة ومتعددة جديرة بالدراسة والبحث، إلَّا أن تحرك “غياث دلِّة” وزُمَرَهُ البائسة أتى ليجهز على أدنى فرصة لأي قلم يحلم بالخروج عن خطاب (فسابكة وتكاتكة) العهد الجديد، الذين أخشى (عليه لا عليهم) أنهم باتوا يشكلون واجهته الأكثر حضوراً، وربما تأثيراً، ويسرحون ويمرحون اليوم بين قصر الشعب وفندقي الفورسيزونز والشيراتون … في دمشق عبد الملك بن مروان ..!!

أن يكون لأي سورية أو سوري اليوم رأي وإن كان سلبياً في كينونة وسيرورة عملية التغيير السياسي برمتها فذاك لايعني أنهم فلول لنظام الوريث الساقط، أو يأسفون على أيام عصابته البائدة، واللافت أن اتهامات كهذه لم تصدر عن مسؤولين في إدارة الرئيس الشرع بحق أحد، فقد حمل عناء ذلك فريق (المؤثرين) المحيطين به، رغم تأكيداته المتكررة على ضمان حقوق كل السوريين في حرية الرأي والتعبير، بما يؤكد نجاعة فكرة الاعتماد على (المؤثرين) وجمهورهم من اللحظة الأولى، وإن كان دورهم اليوم مرشح للتراجع أمام من هم الآن أكثر (تأثيراً) في إحباط أي رأي سلبي في العملية السياسية التي يفترض إطلاقها لسوريا الجديدة، لا أقصد هنا سوى “غياث دلة” ومجاميعه القاتلة، من الفلول الحقيقية لنظام المخلوع الهارب.

لمن لايعرف “غياث دلة” الذي يقف مع آخرين وراء تحركات الغدر التي قامرت بدماء وأرواح أهلنا في الساحل ومعهم شباب الأمن العام، وأعلن نفسه مسؤولاً فيما سمَّاه (المجلس العسكري لتحرير سورية) فإن للمذكور سيرة ذاتية تتناسب تماماً مع دور الفتنة القاتل الذي يقوم به اليوم، فالضابط الذي كانت كل مؤهلاته أنه ابن سائق الأسد الأب، تدرج في مرتبات آلة قتل السوريين المسماة بالفرقة الرابعة إلى أن أصبح رئيساً لأركانها، وشارك في كل عمليات القمع والتنكيل الممنهج التي تعرض لها المدنيين الأبرياء في درعا والغوطة وداريا، بل وأسس لميليشيات رديفة تعمل على قتل السوريين سميت ب (قوات الغيث)، ليتحول بعدها إلى مهمة أرفع وأسمى، ليصبح (تحصلداراً) في ماكينة ماهر الأسد التي تدير الأمرين الوحيدين اللذَين سمح الوريث القاصر لأخيه الأصغر بالتدخل فيهما:

  • قمع أي تحرك مناويء للنظام،
  • وإدارة امبراطورية فساد مالي تقوم على تصنيع وتجارة الكيبتاغون والمخدرات والجباية من على حواجز الفرقة الرابعة وترفيق القوافل، ونقطة على السطر،

وأي حديث عن أي دور سياسي لماهر الأسد طيلة فترة حكم أخيه بعيد عن الحقيقة، لقناعة الوريث بأن أخاه (وأخته) متقدمان على الجميع في إدراك مدى بلاهته وسفاهته، وأي حديث عن تنسيق لإيران أو حزب الله مع ماهر دون المرور ببشار كان خيالاً تدعمه سرديات بشار نفسه.

على رأس هرم الفساد المالي لماهر الأسد كان يتربع “غياث دلة” ليدير هو و “حسين مريش” و “غسان بلال” (الذي طالب الروس مراراً باعتقاله) إمبراطورية الكيبتاغون وخوَّات الحواجز وترفيق القوافل، في الوقت الذي كان نظامهم يزج فيه بأرواح الشباب العلوي الفقير في معركة ضد أبناء شعبهم، كان الكل فيها خاسراً من اللحظة الأولى، واليوم وبعد أن هرب الوريث وأخاه وتركوا الجميع لأقدارهم، يعود “دلة” لمتابعة التجارة بأرواح العلويين ومصائرهم، معلناً عن مجلس عسكري تأخر أربعة عشر عاماً، كم تمناه السوريون جميعاً ليقف مع شعبه ضد نظام حكم العائلة الذي قامر بأرواح كل السوريين، وأولهم العلويين، الأمر الذي تنطحت له ثلة من ضباط الجيش السوري الشرفاء الذين رفضوا استخدام سلاحهم ضد شعبهم، هؤلاء الضباط اليوم مهمشون تماماً من أي عملية سياسية أو حتى المشاركة بجهد أمني تحتاجه سورية بشدة، لفرض السلم الأهلي وتحصين مرحلة مابعد الأسد الساقط.

ماجرى في اليومين السابقين يحمل دلالات مهمة وخطيرة، وينذر بقادم أخطر وأسوأ، وإن كانت بعض المقولات محقة في أن فتنة “دلة” و “فتيحة” هي أمر مُبَيَّت، ولاعلاقة له بأية انتقادات محقة لأداء إدارة الرئيس الشرع، فإن هذا لاينفي مجموعة حقائق مهمة لايمكن تجاوزها، وإلا كنا كمن يحكم على مسلسل طويل من خلال الحلقتين الأخيرة وماقبلها.

كان واضحاً جداً ومنذ اللحظة الأولى لإعلان سلطة الرئيس الشرع وفريقه أن سورية كلها بحاجة ماسة لعملية عدالة انتقالية ممنهجة ومنظمة، من خلال قنوات رسمية، تسير وفق القانون الجنائي السوري المعتمد، دون الحاجة لإعادة اختراع العجلة، وأن سردية (اذهبوا فأنتم الطلقاء) رغم أنها وفرت دماء سورية غزيرة، إلا أنها كانت مجرد وسيلة من وسائل القبض على السلطة بأدنى ثمن ممكن، كانت مقبولة في البداية، لو أتبعت بمسار قانوني واضح منذ الأيام الأولى للعهد الجديد، الأمر الذي كان أكثر أهميةً ومركزيةً من الدخول في دوامة المناهج الدراسية، أو قوننة الاحتفالات الدينية في المساجد وإخضاعها لسلطة الإدارة الجديدة ..!!

الأمر المهم الآخر هو أن التسريحات الجماعية والفصل من العمل لأعداد غفيرة من الموظفين المدنيين والعسكريين خلق وضعاً اقتصادياً واجتماعياً متفجراً كان واضحاً أنه سيكون له منعكساته على السلم الأهلي، خصوصاً عند اقترانه بعدم قدرة الإدارة الجديدة على دفع رواتب من بقي من الموظفين على رأس عمله أو المتقاعدين، وهو أمر قد لاتتحمل مسؤوليته كاملةً، لأنها بالفعل تسلمت بلداً قاعاً صفصفاً، ولكنها تتحمل واجب معالجته، على الأقل بحكم كونها في موقع المسؤولية.

تستطيع الإدارة الحالية أن تُحَمِّل العقوبات الدولية على سورية كماً كبيراً من مسؤولية عدم قدرتها على معالجة الواقع الإقتصادي الحالي، ولكن بالمقابل فإن المجتمع الدولي كان واضحاً وشفافاً منذ البداية وأعلن في أكثر من مناسبة أن رفع أية عقوبات سيكون تدريجياً ومقترناً بخطوات ملموسة تقوم بها الإدارة الجديدة على طريق الانفتاح الحقيقي والمشاركة الكاملة لكل السوريين في عملية الانتقال السياسي، الأمر الذي لايعتقد العديد من المراقبين الدوليين أنه قد حصل فعلاً، يشاركهم الرأي العديد من السوريين.

الموضوع الأكثر أهميةً وحساسيةً هو قضية المقاتلين غير السوريين الذين فعلت الإدارة خيراً في أنها سحبتهم في وقت سابق من مناطق الساحل ذات الكثافة العلوية، مما خفف كثيراً من حالة الاحتقان الشعبي نتيجة مصادمات بينهم وبين الأهالي، ولكنها على مايبدو كانت مضطرة للعودة للاستعانة بهم بعد التحرك الغادر لمجموعات “دلِّة” و “فتيحة” ومن استطاعوا تجييشهم معهم في محاولة انقلاب حقيقي على الوضع القائم، استدعت من الجميع ثمناً فادحاً.

حتى وان اختلفت عناوين العقبات الرئيسية التي يواجهها الوضع السوري اليوم، بين العدالة الانتقالية والوضع الإقتصادي الصعب والتحدي الأمني في مواجهة تحركات غادرة لن يكون تحرك فلول الفرقة الرابعة آخرها، إلا أن الثابت هو أنه لا حلول سحرية لها، إلا من خلال أمر واحد ومحدد، وهو قبول مبدأ المشاركة السياسية، فدونه لن تكون هناك عدالة انتقالية يكون العلويون السوريون جزءاً منها وفي صلبها، ومعها لاعليها، ولن يكون هناك رفع للعقوبات الاقتصادية عن سورية، ولن يكون هناك قبول لاستيعاب الضباط المنشقين عن الجيش السوري النظامي في قوات الإدارة الجديدة ليكونوا في صلب عملية الدفاع عن مرحلة مابعد الأسد من أي تحرك غادر لفلوله وبقاياه، ولكن الواضح (حتى الآن)  أن العقدة المستحكمة للإدارة الجديدة تكمن في أنها منفتحة على أي شيء سوى هذه المشاركة السياسية.

اعتراف الرئيس الشرع بالتجاوزات التي حصلت في عملية الرد على التحرك الغادر لفلول الأسد أمر حميد، وخطوة في الاتجاه الصحيح، كذلك تشكيل لجنة للتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها، إلا أن كل ذلك لن يكون ذو قيمة على الإطلاق في معزل عن المشاركة السياسية، فهي وحدها مفتاح الحلول مع أطياف واسعة من السوريين والمجتمع الدولي معاً.

يستطيع الرئيس الشرع أن يعتقد أن أحداث الساحل الأخيرة قد خدمته، خصوصاً وأن النفير العام (الذي لم يطلقه هو أو فريقه بالمناسبة)، قد وجه رسالة صريحة للجميع بأن الشارع (ببعض نخبوييه) معه، وباستطاعته دوماً تجييشه بالتلميح لا بالتصريح، ليس ضد الفلول فقط، بل ضد أي مناويء له أو لفكره، والأهم من ذلك كله، للشكل الذي يريده لسورية، وبذلك تكون دِلِّة الغيث قد صبت في فنجانه دون غيره.

كنت أتمنى على الرئيس الشرع أن يقلب الفنجان بوجه غياث دلِّة، فدِلال الأسد عودت السوريين سَمَّها الزعاف، وأن يعود للوجدان الجمعي السوري الذي لازال فيه من راهن عليه كضامن للعبور لمرحلة مابعد الأسد، مقابل جمهور سوري آخر، عريض وإن كان لايزال صامت، يرى أن الشرع استفاد من حالة (النفير العام) التي أمّنت له هامشاً شعبياً مريحاً لإطلاق إعلان دستوري كان مخيباً لآمالهم، لأسباب متعددة، تستحق وقفة قادمة.

رغيد عقلة

كاتب سياسي سوري أميركي

‫2 تعليقات

  1. اخي العزيز رغيد المحترم
    لقد كتبت فأجدت وصف الحاله السوريه بكل دقة وموضوعيه إن كان من ناحية النظام المستبدالسابق الذي أدخل السوريين في أتون حرب طاحنة طحنت فيما طحن البشر والحجر ولم تبق اوتذر كل ذلك خدمة لمصالحها الماديه وتعبئة خزائنهابغض النظر عن مصالح شعبهااوحتى مصالح الطائفه التي تدعي الإنتماء إليها وهي في حقيقة الأمر منهابراءحيث إن طائفتهاالحقيقه كانت تضم من كل طوائف الشعب السوري بدون استثناء.
    لكن القياده الجديده التي قضت على هذه الطغمه المستبده كان يجب أن تتعامل مع أبناء الشعب السوري بروح من التسامح والعفو ماعدا الفئات التي تورطت واوغلت بالدم السوري وهي معروفه للقاصي والداني وتضم فيمن تضم مختلف شرائح واطياف الشعب السوري وليس فقط طائفه بعينها
    اتمنى للقياده الجديده كل النجاح والتوفيق على أن تأخذ باسبأب هذا النجاح وتعمل جاهدة على إزالة آثار ماحدث من ماس خلال الايام الماضيه وعذراً مني إلاطاله ولكم تحياتي

    1. كل الشكر والتقدير لقراءتك وتعليقك المهم صديقي العزيز، وأنا متفق معك تماماً بكل ماورد في تعليقك المهم، على أن الإدارة الجديدة بادرت بموضوع المسامحة في البداية، ولكن دون أطر ناظمة له، فكانت قاصرة لم تؤدي الغرض منها، ما تحتاجه سورية اليوم هو مسار عدالة انتقالية حقيقية يحاسب المدانين ضمن الإطار القضائي الرسمي، وبغض النظر عن انتماءاتهم، فالأسديون كما تفضلت كانوا فعلاً من كافة الطوائف والمشارب والأعراق. طبعاً أنا مثلك أتمنى للإدارة الجديدة النجاح لأن في ذلك نجاح لنا جميعاً. مودتي وتقديري لك دوماً صديقي الغالي.

زر الذهاب إلى الأعلى